الصفحات

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

د. ابراهيم نصحي في ذمة الله


نشرت في جريدة جامعة قاريونس بعد وفاة د. نصحي عام 2006


تنعي جامعة قاريونس وفاة د. ابراهيم نصحي قاسم ، أمين الجمعية التاريخية المصرية الذي وافه الاجل المحتوم في المدة القريبة الماضية ، وقد كان رحمه الله احد اعضاء هيأة التدريس البارزين بقسم التاريخ بكلية الاداب خلال السنوات الاولى من تأسيسه حوالي عام 1961 ثم عاد للتدريس بذات القسم في اوائل السبيعنيات من القرن الماضي ، ومما يجدر ذكره ان د. نصحي كان احد اساطين التاريخ الكلاسيكي القديم في الوطن العربي فهو من اوائل المتخصصين في هذا المجال ، على الرغم من ان تخصصه الدقيق كان في مجال الدراسات الاثرية الكلاسيكية اذ كانت رسالة الدكتوراه التي ناقشها في بريطانيا عام 1933 في مجال الاثار الهللنيستية و بعنوان " فنون مصر البطلمية " و قد نشرت في لندن عام 1937 ، وعلى الرغم من ذلك فان اهتماماته قد تركزت فيما بعد على التاريخ القديم لا سيما على التاريخ البطلمي في مصر ، حيث اهتم بتدريسه منذ عام 1934 في جامعة فؤاد الاول (جامعة القاهرة حاليا) ، و قد تمخض اهتمامه بهذا المجال على تأليف كتابه العتيد تاريخ مصر في عصر البطالمة ما بين 1941-1946 باجزائه الاربعة الذي اعيد طبعه مرات عديدة ، وسيعاد طبعه مرات اخرى لاهميته القصوى لتاريخ البطالمة ليس في مصر وحدها و لكن في ليبيا ايضا ، وكان هذا الكتاب خير معين لدارسي هذه الفترة التاريخية ، فانكب الطلاب على دراسته وكثير من الاساتذة على تلخيصه و النهل منه عند كتابتهم عن تاريخ مصر في عصر البطالمة . وبعد هذا الكتاب الجامع بطبعاته المتنوعة و المزيدة والمنقحة ، استراح د. نصحي من التأليف و ركن الى الترجمة فها هو يعود به الحنين الى الاثار فيترجم كتاب لويس ممفورد " المدينة عبر العصور ، اصلها و تطورها و مستقبلها " الذي نشر في جزأين عام 1964 ، ثم يتلوه بكتاب آخر عن مدينة انطاكية القديمة لمؤلفه جلانفيل داوني الذي صدر في عام 1967 ، ويبدو انه قد ترجم الكتابين عندما كان في بنغازي يدرس بقسم التاريخ بها ورئيسا للقسم ذاته ، و اثناء اقامتته تلك شارك في المؤتمر التاريخي الاول (ليبيا في التاريخ) الذي اقامته الجامعة الليبية ما بين 16-23/ 3 / 1968 ، ببحث قيم باللغة الانجليزية عن اركيسلاوس الثالث فند فيه بعض الاراء التي ذكرت عن الحملة الفارسية على اقليم كيرينايكي (قورينائية) ، وهذا يعد باكورة اهتمامه بالتاريخ الليبي القديم في العصر الاغريقي ، عززه بكتاب آخر نشرته الجامعة الليبية عن تأسيس المدن الاغريقية في كيرينايكي الموسوم بـ" انشاء قوريني و شيقيقاتها " الذي صدر عام 1970 ، و اعقبه بكتاب آخر عن تاريخ الرومان صدر في جزأين عن منشورات الجامعة الليبية اولهما عام 1971 و ثانيهما عام 1973 ، والذي تتبع فيه بشكل مفصل تاريخ الرومان منذ اقدم العصور حتى عام 44 ق.م.، وبهذه الاصدارات يكون د. نصحي قد اغنى المكتبة التاريخية العربية باصدارات جد مهمة في التاريخ القديم او التاريخ الكلاسيكي الذي كان حكرا على الكتاب الاجانب بلغات متعددة ، ومن ثم فان د. نصحي وضع اساسا متينا لدراسات التاريخ القديم في المكتبة العربية .
و قد مكث رحمه الله ردحا من الزمن في احضان قسم التاريخ بالجامعة الليبية رئيسا لهذا القسم و استاذا للتاريخ القديم به و بقسم الاثار عند افتتاحه ، ويشهد لهذا الاستاذ القدير بغزارة المعلومات وجزالة الاسلوب وقوة اللغة ، وتعدد اللغات الاجنبية التي يتقنها ، وتبحره في التاريخ القديم بابوابه المتعددة افاد الطلاب الذين تتلمذوا على يديه في الجامعة الليبية و جامعة القاهرة و جامعة عين شمس ، وقد رشحته الجامعة الاخيرة عدة مرات لجائزة الدولة التقديرية ، يرحم الله د. نصحي و يجزيه عما قدم من علم خير الجزاء انه السميع العليم .

مع ترجمة كتاب الوقائع التاريخية البرقاوية

نشر في مجلة المجال العدد 11 (2006) ص ص.58-59.

اتحف د. ابراهيم احمد المهدوي عضو هيأة التدريس بقسم المكتبات في جامعة قاريونس ، المكتبة التاريخية العربية و الليبية على وجه الخصوص باصدار جديد البسه ثوبا عربيا بدلا من ثوبه الايطالي ، تمثل في ترجمته لكتاب الاب فرانشيسكو روفيري الموسوم بـ (CRONISTORIA DELLA CIRENAICA 1551-1911) الذي صدر مرقونا على الالة الكاتبة في بنغازي عام 1961 ، وقد عنون ترجمته بـ( عرض للوقائع التاريخية البرقاوية ، التاريخ الكرونولوجي لبرقة 1551-1911 ) التي صدرت مؤخرا عن منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية ، ضمن سلسلة الدراسات المترجمة رقم 42 ، في طبعة انيقة بلغ عدد صفحاتها 222 بحجم 24×17 سم، وللكتاب اهمية خاصة لانه يعرض الوقائع التاريخية للجزء الشرقي من ليبيا (برقة) خلال العهد العثماني / التركي ، وتبرز اهميته بسبب قلة الدراسات و المعلومات التاريخية حول هذه الفترة والمتمثلة في شذرات مبعثرة في بطون بعض الكتب الاجنبية ، وقد استطاع روفيري ان يدون المعلومات التي جمعها عن تاريخ برقة من مصادر ووثائق غير متداولة ابرزها ارشيف القنصلية الفرنسية في بنغازي ، ووثائق البعثة الفرنشيسكانية في برقة ، وارشيف المندوبية البابوبية في بنغازي المحتوي على مراسلات مندوبي القناصل الاجانب في بنغازي مع الحكومة العثمانية ، ومن هنا جاء تميز هذا العمل باطلاعه على مصادر نادرة و غير مسبوقة عند كتابته لتلك الحوليات ، وتلك المصادر قدمت معلومات دونت من قبل جهات محايدة الى حد ما كانت شاهدا عيان على الكثير من الاحداث ، ومن هنا جاءت اهمية الكتاب و ما حواه من معلومات تعد مصدرا لاغنى عنه لتاريخ برقة في العصر العثماني ، وعلى الرغم من صدور هذا المرجع منذ ما يقرب عن 44 عاما الا انه لم يستفد منه بشكل كبير بسبب لغته الايطالية و عدم انتشاره فهو مرقونا على الالة الكاتبة ولم تطبع منه كميات كبيرة ، ولعل أ. محمد مصطفى بازامه (رحمه الله) يعد من اوائل الذين عرّفوا بهذا الكتاب و استفادوا منه ايما استفادة في كتابه بنغازي متصرفلك بأجزائه الثلاثة بل ان من دواعي تأليف أ. بازامه لكتابه اطلاعه على كتاب روفيري و قد اشار الى ذلك في مقدمته لكتابه المشار اليه ، و يمكن الاطلاع على الكثير مما جاء في كتاب روفيري في ثنايا كتاب بنغازي متصرفلك بعد نقد و تمحيص أ. بازامه وتقييمه لكثير من المعلومات التي دونها روفيري و تصحيحه بعضها .
وترجمة د. المهدوي لهذا الكتاب العتيد يعد اضافة مهمة مكنت الباحثين من الاطلاع على الكتاب في لغة عربية بترجمته الامينة والدقيقة للوقائع البرقاوية التي انتهج مؤلفه في سردها نظام الحوليات او التسلسل الزمني اذ يذكر السنة ويسرد اهم الاحداث التي وقعت بها وتيسر الحصول عليها ، وفي هذا الصدد هناك الكثير من السنوات شحت المصادر التي اعتمد عليها في تقديم وقائع تلك السنوات ، ومما يجدر ذكره ان الحوليات تبدأ فعليا بعام 1620 على الرغم من عنوان الكتاب يذكر ان مجاله الزمني يبدأ منذ عام 1551 وهي السنة التي بدأ فيها العهد العثماني في طرابلس ، وهذا خطأ من المؤلف وجب التنبيه عليه و عذره في الوقت ذاته بسبب عدم توفر اية معلومات تاريخية تسبق عام 1620 ، كما ان العنوان يذكر عام 1911 نهاية المجال الزمني للكتاب وقد جاءت وقائع هذه السنة مختصرة للغاية و ذكرت وقائع عام 1911 قبل وقائع عام 1908 و يبدو هذا خطأ مطبعي . ومما تجدر الاشارة اليه ان المعلومات التي يقدمها هذا الكتاب قد تندرج تحت تسمية الفانتازيا التاريخية او الكشكول التاريخي فهو يسجل المعلومات التي وجدت موثقة في الوثائق المشار اليها اعلاه بدون تبويب او تصنيف وبدون غربلة تلك المعلومات التي تتلخص في ذكر الاعمال البنائية و الانشائية التي حدثت في بنغازي و المدن البرقاوية الاخرى اهمها بناء المساجد وترميمها والاعمال المدنية الاخرى ، والمعلومات الواردة في هذا الشأن تعد وثيقة لاغنى عنها لدارسي التطور المعماري لمدينة بنغازي و مبانيها ، والكتاب كثيرا ما يستعرض الاحوال الصحية للمدن البرقاوية من خلال التعرض للاوبئة التي اصابت سكان المدن وبعض الاجراءات التي اتخذت حيالها ، ومن ثم فهو سجل لتاريخ الوضع الصحي للاقليم في العصر العثماني ، كما ان الكتاب يعرض تاريخ زيارة بعض الرحالة الى برقة و بعض اعمالهم ، وقد اخطأ روفيري في تاريخ زيارة بعض اولئك الرحالة ـ مثلا لا حصرا ـ تاريخ زيارة جيمس بروس ضمن وقائع عام 1750 والصحيح ان زيارته كانت عام 1766 ، كما ذكر خطأ وفاة الرحالة هانريش بارث اثناء رحلته الاولى (1845-1846) عبر ساحل شمال افريقيا ضمن وقائع عام 1845 ، وزيارة الرحالة هاملتون كانت عام 1852 و ليست عام 1850 ، كما ان الكتاب يستعرض الكثير من الحوادث السياسية منها تولي الحكام الاتراك لمناصبهم و اهم اعمالهم وطرق جبايتهم للعشور و الضرائب (الميري) من القبائل الليبية المنتشرة في البوادي ، و يؤرخ روفيري لوقائع القبائل القاطنة حول بنغازي و في عموم برقة متتبعا حركتها بين فيافي البادية و الصراع الدموي الذي يطرأ من حين الى آخر بين بعضها البعض ، اضافة الى خروج بعضها عن عصا الطاعة العثمانية وما تولد عنه من حملات عسكرية ضدهم اشار اليها روفيري في ثنايا وقائعه ، كما رصد الحركة التجارية في المدينة من حيث الصادرات و الورادات و حركة الميناء كقدوم بعض السفن التجارية وما تحمله من مؤن لاسيما ميناء بنغازي ، كما رصد الكثير من الوقائع المحلية التي حدثت في مدينة بنغازي مثل واقعة نزاع بين صقلي بائع خمور و احد الزنوج بالمدينة و ما نتج عنها من مشكلة كبيرة في المدينة ادت في النهاية الى منع القناصل على رعاياهم بيع الخمور لانها كانت تسبب الكثير من المشاكل ، اضافة الى جنوح بعض السفن الى الشاطىء وموقف الاهالي منها ،و مجيء القبائل الى بنغازي لتقديم ولاء الطاعة لكل حاكم تركي جديد وحصولهم على البرنوس التركي ، كما يؤرخ لوفاة بعض الشخصيات المهمة في المدينة مثل وفاة الحاج رمضان الكيخيا في 30/5/1833 ، ووفاة ابوبكر بوحدوث زعيم قبيلة البراعصة عام 1870 ، و اهتم روفيري بعرض جملة من الوقائع عن المسيحيين وشؤونهم من الطوائف المختلفة واهتم بطائفته الفرنشيسكانية على وجه الخصوص .
ولم يقتصر الكتاب على تلك الوقائع ولكن روفيري اضاف اليها ملحقا شارحا لبعض الامور التي رأى انها بحاجة الى تعليق وافٍ فاسهب في الحديث عن الانكشارية ، والصراعات القبلية بين القبائل لاسيما ما يعرف بتجريدة حبيب ، وعرّف ببعض المرابطين من بينهم سيدي خريبيش و سيدي غازي و سيدي رافع و غيرهم ، ، وقد قام في مقدمة كتابه بوضع قائمة لحكام برقة منذ عام 1863 الى 1911 ارفقها بسرد ملخص عن بعضهم مثل خليل باشا و رشيد باشا و طاهر باشا ، اضافة الى مقتطفات عن النظام الاداري لبرقة وطريقة جباية الضرائب ومن كان مسؤولا عنها من قبل بعض الاسر الليبية ، واشار الى الوظائف الحكومية وتدرجها ومهام كل موظف يتولى احد تلك المناصب ، وقد اضاف المترجم مسردا بحكام برقة منذ عام 1638 الى 1911 ،و كشافا للاعلام و الاماكن يساعد القاريء على التجول في الكتاب ، كما ان الصور الملحقة بالكتاب تعد اضافة مفيدة من المترجم .
ومما تقدم فالكتاب يحوي بين دفتيه معلومات متنوعة عن اقليم برقة ذات طابع سياسي و اقتصادي وعمراني و ديني ويحوي اخبارا محلية وبعض المتفرقات الاخرى ، اذاً فهو كتاب جدير بالقراءة بفضل ترجمة د. المهدوي لوقائعه الممتعة والمفيدة للمهتمين بتاريخ هذه المدينة العريقة ، تحية للدكتور ابراهيم المهدوي لاهتمامه بترجمة العديد من الكتب الايطالية والانجليزية المهتمة بتاريخ ليبيا وحضارتها ، وتحية لمركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية لاسهامه في احياء التاريخ الليبي باصدراته المتنوعة .

حول الاثارالمنهوبة من مدينة شحات الاثرية







دور الرحالة والقناصل الأوربيون في سرقة آثار
مدينة قوريني في القرن التاسع عشر




تعد مدينة قوريني أو كيريني (شحات حاليا) من اشهر واهم المدن التي أسسها الإغريق في شرق ليبيا في حوالي عام 631 ق .م.فهي عاصمة الإقليم التي ازدهرت اقتصاديا وسياسيا و تبوأت مركزا مرموقا في العالم القديم خلال فترة طويلة من الزمن منذ تأسيسها مرورا بالعصر الهللينستي فالروماني فالبيزنطي ، وقد تعاقبت عليها الفترات التاريخية حتى أصبحت هذه المدينة عبارة عن أطلال طمرت بفعل الزمن وظلت هكذا قرونا عديدة الى ان كشف عن بقاياها وآثارها بواسطة الرحالة الأوربيون والهواة ومعاول الأثريين ، وقد نتج عن عملية الكشف تلك ان تعرضت آثار المدينة للسرقة والنهب المنظم من قبل الرحالة والقناصل الأوربيون الذين بدءوا يتوافدون على زيارتها منذ أوائل القرن الثامن عشر .
ولم تكن قوريني -في حقيقة الأمر- وغيرها من المدن الأثرية الأخرى في الإقليم معروفة للأوربيين قبل ارتياد الرحالة لها والكتابة عنها ، وتعد الزيارة التي قام بها الطبيب الإيطالي باولو ديلا شيلا عام 1917 الى مدن الإقليم الأثرية من أهم الزيارات التي قدمت الكثير من المعلومات الأثرية -لأول مرة - للأوربيين ، ودفعت الكثير من الرحالة للمجيء الى زيارة المدن الأثرية وعلى رأسها مدينة قوريني لنهب ثرواتها والعبث بآثارها ،كما ساهمت رحلة الأخوان بيشي عام 1822 ، ورحلة جان ريمون باشو عام1824- 1825 الى التأكيد على غنى المدن الأثرية -خاصة قوريني - بالمنحوتات والآثار ، من واقع ما جمعه الأخوان بيشي من تماثيل ولم يستطاعا نقلها او من الرسومات التي نفذها باشو ، وكانت دليلا لسارقي الآثار الأجانب في قوريني .
يقتضي الأمر قبل التعرف على جهود أولئك الرحالة التخريبية ان تذكر العوامل التي ساعدتهم على تحقيق ذلك ، وتمثلت في عدم اهتمام السلطة العثمانية او من يمثلها في ليبيا بالمدن الأثرية ، ليس هذا فحسب بل أخذت تساوم باثارها وتقوم بإهدائها الى الدول الأوربية ، ويبدو ان هذا الأمر قد شجع على إنشاء العديد من المكاتب القنصلية في بنغازي مثل مكتب القنصلية الإنجليزية والفرنسية لتمويل ودعم الرحالة بل أيضا المساهمة الفعلية في سرقة الآثار مثلما فعل نواب القناصل الإنجليز وود، و ويري ،و كروا ، ودينس ، و نائب القنصل الفرنسي دي بورفييل ، كما أدت حاجة المتاحف الأوربية _التي افتتحت حديثا_ الى التحف الأثرية ، وإقبال الأغنياء في أوربة على شراء تلك التحف أن شجع الرحالة والهواة على المجيء الى ليبيا والبحث في أطلال المدن الغنية بالآثار التي أهمها قوريني .
ويقتضي السياق التاريخي ان يذكر بدايةُُما قام به القنصل الإنجليزي العقيد هانمر وارنجتون الذي أرسل الي قوريني رحلتين الأولى في عام 1826 بإشراف أحد اتباعه وابنه فردريك ، والثانية في عام 1827 بإشراف ابنه الأصغر جورج من اجل جلب المنحوتات التي جمعها الأخوان بيشي في قوريني ، بعد ان أخذ موافقة الباشا واقنعه بانها ستكون هدية مناسبة منه الى المملكة البريطانية ، وقد افلحت الرحلتين في تحقيق النتائج المرجوة ، وتحصلوا من قوريني على مجموعة متنوعة من الاثار ليست التي جمعها الاخوان بيشي فحسب بل قام ابنه جورج بعمل حفريات في معبد ابوللو ،نتج عنها العثورعلى مجموعة من التماثيل الرخامية وشاهد قبر واناء فخاري مزخرف ، وقد وضعت تلك اللقى في خمس صناديق ارسلت الى اسكتلندا ، ومازالت تعرض في المتحف الملكي باستكلندا . وهذه اول اشياء تسرق من قوريني وتصل الى اوربة .كما قام القنصل الهولندي فان برغل عام 1830 بحفر بعض قبور قوريني تحصل منها على مجموعة من الاواني الفخارية المزخرفة تعرض الان في متحفي ليدن وامستردام . وحذا حذوهما نائب القنصل الفرنسي في بنغازي المدعو فاتتيه دي بورفييل خلال الاعوام 1846-1848 الذي مكث شهرين في قوريني منقبا عن اثارها وتحصل على تماثيل ومنحوتات بارزة اهمها تلك اللوحات الحجرية التي انتزعها من احدى واجهات القبور المزخرفة إضافة الى مجموعة من الاواني الفخارية والتماثيل الرخامية والتميثيلات الطينية والتي تعرض الان في متاحف اللوفر والمكتبة الوطنية وسيفر في فرنسة (الصور 1 -3 ).وقد حاول الرحالة جيمس هاملتون عام 1852 فتح مجموعة من القبور لسرقة محتوياتها في قوريني لكن محاولته باءت بالفشل بسبب تردي حالة الطقس .
ومن اهم الاعمال التخريبية في هذه المدينة ما قام به الضابطان :النقيب مردوخ سميث ومساعده الملازم إليوين بورشير من السلاح البحري الملكي البريطاني في عام 1861 بعد ان سمعا بغنى قوريني بالمنحوتات فقررا الحصول على كميات منها لتقديمها للمتحف البريطاني الذي قام بتمويل اعمالهما ، وقد مكثا في قوريني مدة تسعة اشهر من 23/12/1860 الى14/10/1861 منقبين عابثين بالمخلفات الاثرية حيث قاما و بمساعدة مجموعة من العمال المستأجرين بالحفر في العديد من مبان قوريني مثل معبد باخوس في الفورم ، و معبد ابوللو ،ومعبد زيوس ومعبد فينوس وغيرها من الاماكن ، وقد نتج عن اعمال الحفر تلك العثور على كمية كبيرة من المنحوتات الحرة والبارزة بلغت مائة وثمانية واربعون منحوتا(الصورة 4-6 ) وعشرة نقوش من اهمها تمثالا للمؤله باخوس وآخر للمؤله ابوللو حامل القيثارة وعدة تماثيل لإفروديت ، ومجموعة من تماثيل الاباطرة الرومان وغيرها من تماثيل المؤلهين والمؤلهات والتماثيل الشخصية من اهمها راس من البرونز ذو ملامح ليبية او افريفية يرجع الى القرن الرابع ق.م. (صورة رقم 7 ) اما التماثيل السابقة فهي ترجع الى العصر الروماني ،وقد نقلت تلك المنحوتات والنقوش الى بريطانيا على دفعتين : الاولى بواسطة السفينة الحربية ( H.M.S. Assurance) في يوم 8/6/1861 ، والثانية بواسطة السفينة الحربية ( H.M.S. Melpomene) في يوم 14/10/1861 ، والاخيرة حملت معها سميث وبورشير الذان ودعا مرسى سوسة فرحين بما سرقوا من آثار ماتزال تزدان ببعضها اروقة المتحف البريطاني ، والبعض الاخر يقبع في مخازن ذلك المتحف .
تعد هذه الكمية الكبيرة التي سرقت من قوريني اكبر كمية من المنحوتات سرقت منها ، وتعد في نفس الوقت اكبر كمية يستقبلها المتحف البريطاني دفعة واحدة ، وتجدر الاشارة الى ان سميث وبورشير قد تخليا عن الاساليب العلمية للحفر والتنقيب عن الاثار بغية الوصول الى التماثيل واللقى ، وكان الافضل لو تركت تلك المنحوتات في اماكنها حتى يكشف عنها بطريقة افضل ، وتعرض في متحف شحات بدلا من بعض النسخ الجبسية لبعض المنحوتات الي ارسلها المتحف البريطاني لتعرض في شحات مكان القطع الاصلية ، يا لها من مفارقة عجيبة .
وعندما عرضت تلك المنحوتات وغيرها من اللقى في المتحف البريطاني وشاهدها جورج دينس دفعته الى المجيء الى قوريني التي عدها مصدرا لصناعة الفخار المزخرف ، وسعى حثيثا لكي يُعين في منصب نائب القنصل الانجليزي في بنغازي و يمارس ليس مهامه القنصلية بل التنقيب والعبث بالقبور والبقايا الاثرية خلال الاعوام 1864-1867 ، ولم يكن نصيب قوريني منها كبيرا اذا ما قورن بتاوخيرة( توكرة) على سبيل المثال . ولم يقف الامر على هذا النحو فهناك عدة رحالة وقناصل زاروا قوريني لكن لم يسجل انهم قاموا بالسرقة والعبث بيد ان هذا ليس مستبعد فتعرض في متاحف اوربة العديد من اللقى الاثرية مصدرها الاقليم دون تحديد مدينة بعينها قد تكون قوريني غالبا.
ويتضح من خلال العرض السابق الدور السلبي الذي قام به مجموعة من الرحالة والقناصل الاوربيون في سرقة وتهريب الكثير من المنحوتات المهمة والعديد من الاواني الفخارية الرائعة واعداد هائلة من قطع العملة وغيرها من اللقى التي عثروا عليها اثناء تنقيبهم وعبثهم بالبقايا الاثرية في مدينة قوريني ، او اشتروها من بعض الاوربيين واليهود الذين كانوا يتاجرون بالقطع الاثرية ، وعلى الرغم من هذا فمن الضروري الاشارة الى جهود بعض الرحالة في مجال الكشف الاثري ، التي ما تزال كتاباتهم مرجعا مهما للمنقبين والباحثين الاثريين .
وقد اكمل الرحالة والقناصل دورهم على احسن وجه فنقلوا تلك المسروقات الى متاحفهم العالمية مثل: 1- المتحف البريطاني الذي تحوي مخازنه وتعرض اروقته العديد من المنحوتات الرائعة والاواني الفخارية المزخرفة وقطع العملة(صورة رقم 8 ) والتميثيلات الطينية وغيرها من القى التي لا يوجد ما يناظرها في قوريني .
2- المتحف الملكي باستكلندا الذي تعرض به مجموعة من التماثيل الرخامية والاواني الفخارية وبعض النقوش ، وللاسف فقد باع هذا المتحف بعض ما بحوزته من اثار قوريني في المزاد .
3- متاحف فرنسة وتشمل اللوفر وسيفر والمكتبة الوطنية بباريس وتعرض بها مجموعة كبيرة من المنحوتات والاواني الفخارية وكمية هائلة من التميثيلات الطينية وغيرها.
4-متاحف هولندا وتشمل متحف ليدن وامستردام التي تعرض بها مجموعة من الاواني الفخارية والتميثيلات الطينية .
وبعد هذا العرض للاثار التي سرقت من قوريني في القرن التاسع عشر والتي تعد انموذجا معبرا لبقية اللقى التي سرقت من بقية المدن الخمسة مثل تاوخيرة ، ويوسبريدس(بنغازي) وبطوليمايس (طلميثة) وبرقة ( المرج) وغيرها من المدن والمواقع الاثرية الاخرى ، كما انها جزء من المسروقات التي انتزعت من ليبيا بواسطة الرحالة والقناصل وغيرهم وتعرض الان فيما يقرب من خمس وعشرون متحفا في اوربة ،لذا يحق للشعب الليبي المطالبة بعودة تلك المسروقات لتعرض في المتاحف الليبية ، وقد نادت بهذا المطلب القيادة التاريخية في المؤتمر الخامس لدول عدم الانحياز بكلمبو في 18/ 8/1976، كما اثيرت القضية من جديد في مؤتمر آخر اقيم في بلغراد في عام 1989 وقد قررت تلك القمة بالاجماع استرجاع الاثار والممتلكات الثقافية المنهوبة ، وايدت الجمعية العامة للامم المتحدة ذلك في قرارها الصادر يوم 6/11/1989 والذي امتنعت الدول الغربية عن التصويت عليه .
ولم تؤول ليبيا جهدها في المطالبة باسترجاع الاثار المسروقة وليس ادل على ذلك من إنشاء مكتبا في تركيا تابعا للشؤون الخارجية خاص باسترجاع الممتلكات الثقافية المسروقة من ليبيا من بينها اللقى الاثرية ، وحتى الان لم تؤت تلك الجهود ثمارها ، ويبدو انه من الافضل ان يقام متحفا كبيرا مجهز باحدث التقنيات العلمية في العرض والحماية حتى تعرض به الاثار المسروقة من هذه المدينة اذا قدر لها ان تعود ، كما انه من الضروري ان تستغل تلك الاثار طيلة بقائها في المتاحف الاوربية للدعاية السياحية لاثار قوريني وليبيا بصورة عامة وتراثها الحضاري الموغل في القدم .

حول المتاحف الاثرية في ليبيا و علاقتها بالسياحة

نشرت الدراسة في كتاب د. سعد القزيري (تحرير) السياحة في ليبيا – الامكانيات و المعوقات ، الزاوية : دار اساريا : 2002 ، ص ص.235-262 .

المتاحف الأثرية في ليبيا ودورها في السياحة بين الواقع والطموح


توطئة :
ليس من الصعب إيجاد أو تقديم تعريف للمتحف فحتى غير المتخصصين يعرفون بأن المتحف هو ذلك المبنى الذي يعرض مجموعة من الأشياء قد تكون من الأشياء التاريخية أو العينات العلمية أو المنتجات الصناعية بغرض اطلاع الجمهور عليها أي أنها تفتح للمشاهدة بغرض التسلية والترفيه والدراسة أيضا يتميز هذا التعريف بالشمولية والعمومية وهناك العديد من التعريفات برزت من قبل المتخصصين تعد اكثر علمية فقد عرفتها المنظمة الأمريكية للمتاحف (AAM) " أنها تلك الأماكن التي تهتم بجمع التراث الإنساني والطبيعي والحفاظ عليه وعرضه بغرض التعليم والثقافة " أما منظمة المتاحف العالمية (ICOM) فتعرف المتحف على أنه معهد دائم لخدمة المجتمع لا يهدف إلى ربح مادي يعمل على جمع وحفظ وعرض التراث الإنساني والطبيعي والعلمي بغرض الدراسة والتعليم والمتعة "[1] وهذا التعريف يشمل جميع المتاحف على اختلاف أنواعها ، التي تتمثل في أربعة مجالات أساسية هي 1- الآثار والتراث الشعبي ،2- الفنون الجميلة ،3- الصناعات ، 4- التاريخ الطبيعي .ويتفرع منها عدة فروع وأنواع تخدم الهدف الرئيسي من المتاحف .
* * *
والمتاحف الأثرية هي بيت القصيد هنا حيث تُعد من أقدم أنواع المتاحف ،وهي الأصل الذي اشتقت منه جميع أنواع المتاحف فيما بعد ، ويمكن تعريفها بأنها الأماكن التي تعرض بها البقايا والمخلفات الأثرية التي نتجت من الحفريات في المواقع والمدن الأثرية ،والتي ترجع إلي حضارات الأمم السابقة ، تشمل المعروضات الأدوات والأواني والمخلفات التي تبرز تاريخ شعب من الشعوب وحضارته سواء من الناحية الاقتصادية والدينية والاجتماعية والفنية .والزائر لهذا النوع من المتاحف يخرج بحصيلة ثقافية ومعلومات قيمة عن تاريخ الشعوب السالفة وحضارتها إذا ما توفرت في المتحف الإمكانات المادية من وسائل عرض تقنية و أيدٍ فنية مدربة تدرك الهدف الحقيقي الذي بنيت من أجله المتاحف . وهذا النوع من المتاحف لا تقتصر مهمته على العرض فقط ،فهو مؤسسة علمية تعليمية ثقافية مهمتها التنقيب عن الآثار لجمع المادة الأثرية بطرق علمية ، وصيانة اللقى والمخلفات الأثرية المعروضة في المتحف والمحافظة عليها من السرقة والعبث بها ،وإعداد الدراسات العلمية حول تلك الآثار . وإعداد البرامج التثقيفية والتعليمية والتربوية وفقا لاحتياجات المراحل التعليمية المتعددة ، والمستويات الثقافية المختلفة بحيث يكون المتحف على صلة وثيقة بالمجتمع وهذا من أسمى الأهداف التي من الضروري أن تبنى من أجلها المتاحف في الوقت الحاضر .
وانطلاقا مما سبق فإن المتاحف تقدم للمجتمع خدمات تعليمية ،وتحافظ على التراث الحضاري ، وتقوم بتفسير الماضي للمجتمع و تغذي غريزة الانتماء للوطن ، كما أنها تقدم الخبرات الفنية والجمالية ، وتهيئة الجو الترفيهي للمجتمع[2] ،وهذه هي أهم وظائف المتاحف [3].
وبناءََ على أن المتاحف الأثرية هي أماكن تعكس ماضي المجتمع الذي تخدمه ، ومرآة تبرز الحضارة التي كان عليها ذلك المجتمع ، إذا فهي من الأماكن التي يحرص السائح على زيارتها ، وبسبب أهميتها فهي تعد من أهم المعالم السياحية التي يحرص منظمو الرحلات السياحية أن يزورها السياح ، كما أن دوائر السياحة والحكومات تسعى إلى التعريف ببلدانها عن طريق المتاحف ،ويتمثل ذلك في الإنفاق على بنائها والحرص على انتشارها خاصة في المدن الرئيسية ،حيث أصبحت كل دولة تقيم متحفا وطنيا خاصا بها تحاول من خلاله إبراز تاريخ بلادها وحضارتها من خلال معروضاته التي تنتقى من اغلب المدن والمواقع الأثرية فالسائح الزائر للعاصمة فقط عند زيارته له يطلع على الكثير من آثار تلك المدن والمواقع دون الحاجة أن يزور تلك الآثار في مواقعها الأصلية ، وفي نفس الوقت تمثل المتاحف الوطنية العامة نوعا من الدعاية السياحية لتك المواقع بحيث يشحذ السائح همته ويزور تلك الآثار ، لذا يوصى بأن لا تعرض في المتاحف الوطنية جميع القطع الأصلية إنما نسخ عنها ، وتزود بالصور والمخططات للمواقع الأثرية البعيدة لكي يشتاق ويرغب السائح أن يزورها ، كما أن أسلوب العرض التشويقي من شأنه أن يعزز رغبة السائح في زيارتها .أما إقامة المتاحف الإقليمية فهو ضروري حيث أن السائح على الرغم من زيارته للمدن الأثرية والاطلاع على ماضيها العريق من خلال التجوال بين معالمها المعمارية من معابد ومقابر ومسارح وأسواق ومباني عامة وخاصة تعد زيارته ناقصة ومعلوماته مبتورة فهو لم يطلع على الحياة اليومية للسكان ماذا يفعلون ؟ ما أدواتهم ؟ أين الأشياء التي كانت تدفن معهم في قبورهم ؟ ما الذي عثر عليه أثناء التنقيب و الحفر في المدينة ؟ هذه أسئلة تدور في ذهن السائح ، ولايستطيع الإجابة عنها إلا وجود متحف تعرض به تلك الأشياء ، فمن خلال المتحف يتعرف السائح على الحياة اليومية ، والسياسية والتاريخية والاقتصادية وعلى العادات الاجتماعية والطقوس الدينية ويشاهدها عن قرب ، ويفضل الكثير من السائحين زيارة المتاحف مقارنة بزيارة المواقع الأثرية نفسها خاصة كبار السن أو من لا يستطع مجاراة الأدلة السياحيين بسبب صعوبة فهم اللغة أو ضيق الوقت ، بينما توجد في المتاحف وسائل الإيضاح السمعية والبصرية ومتوفرة بعدة لغات ، كما أن السائح له الحرية المطلقة في اختيار المعلومات التي يرغبها ، أو الأشياء التي يريد الاطلاع عليها ، وكلما كان أسلوب العرض ممتعا ومشوقا اقبل السياح على زيارة المتاحف والإفادة منها واستمتعوا بزيارتها ، وهي تعد في نفس الوقت ضرورية ومكملة لزيارة المواقع والمدن الأثرية .
* * *
لم تكن المتاحف بطبيعة الحال ابتكاراً حديثاً فأصولها ترجع إلى عصور عتيقة موغلة في القدم ،اتفق مؤرخو المتاحف على أن المبنى المسمى موزايون (Mouseion) الذي بناه بطليموس الأول (325-285 ق.م.) يعد أقدم متحف في التاريخ انطلاقا من انه كانت تعرض به بعض التماثيل ،إضافة إلى كونه مركزا علميا.بيد أن المفهوم الحديث للمتاحف لم يتبلور إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما افتتحت بعض المتاحف في أوربة مثل متحف جامعة اكسفورد (1671) ومتحف الفاتكان (1750) ، والمتحف البريطاني (1753) ، ومتحف اللوفر (1793) وغيرها من المتاحف التي تعد تطورا لقاعات العرض الخاصة بأشكالها المختلفة التي شهدتها أوربة خلال العصور الوسطى وعصر النهضة [4] .وعرفت المتاحف في الوطن العربي عن طريق المستعمرين الأوربيين وكان ذلك ما بين أواخر القرن التاسع عشرواوائل القرن العشرين .
وليس بمستغرب أن يقوم الإيطاليون-إبان احتلالهم لليبيا - بالاهتمام بإنشاء المتاحف خاصة بعد تزايد الاكتشافات الأثرية بعد البدء في الحفريات في الكثير من المواقع والمدن الأثرية مثل بنغازي ،و شحات ولبدة وطرابلس ،وزليطن وغيرها .ويُعد متحف مدينة بنغازي أقدم متحف أنشأه الإيطاليون في ليبيا وكان ذلك في عام 1912 م ، وقد عرضت داخله مجموعة من اللقى الأثرية تمثلت في منحوتات وشواهد قبور من منطقة الصابري ، واللقى التي عثر عليها في المفلوقة بسيدي حسين ، وبعض المنحوتات من شحات قبل إنشاء متحف بها ، وقد اقفل هذا المتحف الصغير عام 1928 عندما تزايد الاهتمام بآثار شحات ونقلت إدارة الآثار الإيطالية إليها. وينسب إلى هذه الفترة المبكرة أيضا إنشاء متحف للآثار في طرابلس في أوائل عام 1919 م داخل مبنى صغير يقع في الناحية الجنوبية من السراي الحمراء ، وقد عرضت به التحف الأثرية التي عثر عليها في أماكن متفرقة من منطقة طرابلس مثل قبور برج الدالية ،وفسيفساء دار بوك عميرة في زليطن ،وتماثيل عثر عليها في لبدة وصبراتة وغيرها ،وسريعا ما أقفل هذا المتحف ما بين الأعوام 1920-1923 م [5]. وعندما تزايدت أعمال الحفر والتنقيب في المدن الأثرية وما نتج عنها من لقى أثرية تستأهل العرض نشطت السلطات الإيطالية في بناء المتاحف في المدن الأثرية الرئيسية مثلما حدث في شحات ،وصبراتة ،ولبدة في عام 1935 م ،وإعادة افتتاح متحف طرابلس فيما بين 1930-1935م ، و كانت توجد متاحف قبيل اندلاع الحرب الكونية الثانية مثلما في سوسة و شحات و المرج وطلميثة وبنغازي ولبدة وطرابلس وصبراتة ،والتي أقفلت و ضاعت الكثير من معروضاتها أثناء تلك الحرب .
ومن الضروري تقويم تلك المتاحف ،والتعريج على أسباب بنائها،وجدير بالقول في هذا الشأن إن المتاحف التي أنشأها الإيطاليون لم تؤسس لإغراض سياحية بل كانت ذات أهداف سياسية ثقافية من اجل ترسيخ فكرة الاستعمار وزرع فكرة أن ليبيا الشاطئ الرابع لإيطاليا منذ العصور القديمة ، حيث تم التركيز على عرض الآثار الكلاسيكية (الرومانية بصورة خاصة ) محاولة لمحو الجذور العربية والإسلامية لهذا الشعب ، كما كانت تلك المتاحف تبرز النشاط الأثرى لإدارة الآثار الإيطالية فظهرت متاحف في مواقع أثرية صغيرة لا يرجو منها تقديم الكثير باستثناء أنها تعد رافدا من روافد السياحة الداخلية إن جاز التعبير.وعند النظر إلى تلك المتاحف من الناحية التقنية والإنشائية ، يلاحظ أنها لم تقم في مباني أعدت لهذا الغرض، فقد استغلت مباني سابقة لم تكن مناسبة بأية حال أن تكون متاحف فمتحف طرابلس أقيم في البداية في مبنى كان يستغل مركزا للشرطة في العهد التركي ، وبعض المتاحف الأخرى لم تكن سوى صالات مسقوفة بألواح من الزنك أو الصفيح مثل متحفي طلميثة وسوسة ، ولم تزود بوسائل العرض المناسبة ،ويمكن أن يستثنى متحف الآثار الذي في السراي الحمراء حيث استغل هذا المبنى التاريخي متحفا واهتم به اهتماما كبيرا باعتباره المتحف الرئيسي في ليبيا ، ولم يكتب عن تلك المتاحف أي دليل سياحي أو اثري ، ولم تسجل محتوياتها تسجيلا علميا مما أدى إلى ضياع الكثير من المعروضات ، وعدم معرفة مصدرها الأصلي حتى ألان .
وقد أعيد افتتاح اغلب المتاحف في عهد الإدارة البريطانية (بعد عام1943) ،وأضيف لها متحف توكرة الذي افتتح لفترة مؤقتة خلال عام 1945 ليعرض اللقى التي وجدت في حفريات القبور التي أجراها ضباط من سلاح الجو البريطاني .ولم تكن تلك المتاحف احسن حالاً من مثيلاتها الإيطالية .
ويجدر الآن استعراض المتاحف الموجودة في ليبيا[6] والتعليق على معروضاتها ووسائل عرضها،وما مدى أهليتها لتكون مصدراً لجذب السياح فهناك حاجة ملحة لإعادة دراستها بتحديد الوضع القائم وإدراك مدى فاعليته وإبراز مواطن الضعف والقصور ليتم تداركها :
1-المتحف الجماهيري بطرابلس:
يعد هذا المتحف من أضخم [7] و أحدث المتاحف الموجودة في ليبيا والوطن العربي[8] ،وقد بني في شارع استحدثه الإيطاليون داخل السراي الحمراء بتصميم اعد خصيصا لمتحف [9] ،وقد أشرفت على بنائه وتجهيزه منظمة اليونسكو[10] ،و افتتح للجمهور في 10/9/1988م، وجمع في داخله متاحف السراي الحمراء التي تكونت من المتحف الكلاسيكي (1919-1937)، ومتحف ما قبل التاريخ (1952) ، ومتحف الأزياء والعاديات (1953) ، ومتحف الجهاد الوطني (1970)، ومتحف التاريخ الطبيعي(1936)[11] ، ومتحف النقوش الكتابية (1952)، إضافة إلى ذلك مجموعة من اللقى والآثار من اغلب المدن والمواقع الأثرية في ليبيا والتي تعبر عن التاريخ الحضاري للشعب الليبي ، لتحقيق الهدف الذي أنشيء من اجله هذا المتحف ليكون شاهدا على حضارة الإنسان الليبي عبر العصور حتى العصر الحديث . وقد قسم المتحف إلى أجنحة وصالات وفقا للتسلسل التاريخي ، فهناك جناح لما قبل التاريخ ، وآخر لفترة القبائل الليبية يليها التراث الليبي في العصر الفينيقي ثم العصر الإغريقي فالروماني والبيزنطي ، وهناك جناح خاص للحلي والمسكوكات ، ثم الاثار الإسلامية ،وجناح ليبيا عصر الجماهير ،وأيضا متحف التاريخ الطبيعي [12]. وجدير بالذكر أن المتحف أعيدت له التسمية القديمة ،ويطلق عليه الآن مجمع متاحف السراي الحمراء.


2- المتحف الإسلامي بطرابلس :
يقع هذا المتحف بشارع سيدي خليفة بمدينة طرابلس ، وهو يشغل أحد المباني التركية (1832-1835) ،ويعرف محليا بقصر الكونتيسة ، وتم افتتاحه في 1/9/1973م ، وكانت تعرض به معروضات تعبر عن الحضارة الإسلامية في ليبيا من نماذج معمارية ومسكوكات وخزف ،ومخطوطات ، إضافة إلى النقوش العربية والتركية ،وأضيف للمتحف قسم خاص بالجهاد الليبي ،ولكن للآسف فقد نقلت اغلب معروضاته إلى المتحف الجماهيري عند الشروع في إعداده ،ولم يبق منه إلا بعض الأثاث والأشياء التي تخص الكونتيسة التي كانت مولعة بالآثار الإسلامية [13].
3-متحف صبراتة الكلاسيكي:
يقع داخل المدينة الأثرية في صبراتة ، وقد أسس عام 1934، وأدخلت عليه الكثير من الإصلاحات والتعديلات في الفترة الأخيرة ، وتعرض فيه مجموعة كبيرة من اللقى المنقولة التي عثر عليها في الحفريات التي أجريت بالمدينة ، مثل الفخار والعملة والزجاج ، والعديد من المنحوتات الحرة والبارزة ،ونقوش لاتينية ،ولوحات جدارية ، وارضيات فسيفسائية ، وترجع كلها إلى العصرين الروماني والبيزنطي.
4- المتحف البونيقي بصبراتة :
هو متحف صغير يتكون من قاعتين فقط ، ولا يبعد كثيرا عن المتحف السابق ، وقد افتتح خلال عام 1985م ، وكانت اغلب معروضاته تعرض في متحف صبراتة الكلاسيكي ،والغاية من إنشائه إبراز التراث الفينيقي في هذه المدينة ، وتمثلت المعروضات في مجموعة من التماثيل وشواهد القبور البونيقية ، ومنحوتات بارزة نقلت من الضريح البونيقي ، ومقبرة بونيقية بكامل أثاثها الجنائزي من جرار وأواني فخارية مستوردة ، إضافة إلى لوحات القرابين النذرية [14].
5-متحف جنزور الأثرى :
يقع هذا المتحف الصغير في جنزور عند الكيلو متر 13 غرب مدينة طرابلس ، وأقيم في منطقة الحفائر التي أكتشف بها مجموعة كبيرة من القبور البونيقية-الرومانية ، وبسبب أهمية تلك القبور واحتوائها على رسوم جدارية ، وتعدد أنواع اللقى التي وجدت بها تقرر إقامة متحف يشمل القبور نفسها بحيث يمكن النزول إليها ومشاهدة أسلوب الدفن الذي كان مستعملا آنذاك ، وتكون المتحف في الأعلى من مجموعة من الخزانات الجدارية عرض بها أنواع مختلفة من الأثاث الجنائزي ( جرار ، أواني فخارية ، مصابيح ،أدوات معدنية وغيرها )، افتتح المتحف عام 1977م [15].
6- متحف لبدة الأثرى :
يرجع وجود متحف في هذه المدينة إلى عام 1927م،وبسبب ضيق المتحف القديم ،وكثرة المكتشفات الأثرية اصبح المتحف غير كاف لعرض التاريخ الحضاري لمدينة لبدة عبر العصور لذا ظهرت الحاجة الماسة لإنشاء متحف جديد يستوعب تلك المعروضات ، ويخطط وفقا لمتطلبات المتاحف الحديثة .عرض بهذا المتحف الذي افتتح في 18/9/1423، مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية تمثل- في تسلسل تاريخي - الأدوار الحضارية التي مرت بها مدينة لبدة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث، أبرزت تلك المعروضات الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والترفيهية واليومية لهذه المدينة [16].
7-متحف سرت:
يقع هذا المتحف بمنطقة المدينة (تصغير مدينة) التي كانت تسمى قديما سرت ، و تبعد عن سرت الحالية مسافة 55 كم ناحية الغرب ، وقد بني حديثا داخل المدينة الأثرية ،بغرض عرض اللقى الأثرية التي وجدت في حفائر المدينة التي بدأت منذ 1963 وما زالت مستمرة حتى الآن . تم افتتاح هذا المتحف في عام 1987م ، وتشمل معروضاته مجموعة من الآثار المنقولة مثل الأدوات الحجرية والأواني الفخارية والزجاجية ومجموعة من المسكوكات والنقوش والمصابيح ، اغلب تلك المعروضات ترجع إلى الفترة البيزنطية والإسلامية ، والقليل إلى الفترة البونيقية ، وعصور ما قبل التاريخ [17].(المتحف مغلق الآن بسبب عدم توفر الحراسة ) .
8-متحف بنغازي :
على الرغم من أن هذه المدينة كانت تملك أقدم متحف أنشيء في ليبيا ، إلا أنها الآن لاتملك أي متحف ، كان يوجد بها متحف قرب ضريح عمر المختار تم افتتاحه عام 1977 وأغلق عام 1979، وكانت تعرض به مجموعة كبيرة من اللقى الفخارية والمصابيح وشواهد القبور والتماثيل وغيرها من المعروضات التي عثر عليها في حفريات سيدي خريبيش وفي قبور السلماني وسيدي حسين ،وأغلبها يمثل تاريخ المدينة منذ تأسيس يوسبريدس ثم برنيكي التي استمرت حتى العصر الإسلامي .
9-متحف العقورية (توكرة) :
أقيم هذا المتحف الصغير داخل المدينة الأثرية عام 1967 عقب اكتشاف كمية كبيرة من الأواني الإغريقية التي ترجع إلى فترة مبكرة وساهمت في التعرف على التاريخ الحقيقي الذي أسست فيه تاوخيرة ، وعلاقاتها الخارجية ، وهذا ما أبرزته المعروضات الفخارية بالمتحف ، وعرضت به أيضا مجموعة من النقوش ألقت بعض الأضواء على تاريخ المدينة .وقد فتح المتحف أبوابه للزوار في 18/4/1972م[18] . (اقفل المتحف عام1990 بسبب تعرضه للعديد من السرقات ، وينتظر افتتاحه في الفترة القريبة ).
10-متحف طلميثة (الدرسية) :
مبنى صغير استغل متحفا قبيل الحرب الكونية الثانية ، ثم أعيد افتتاحه عام 1952م وحدثت عليه الكثير من التطورات خاصة في المعروضات ، التي شملت مجموعة من المنحوتات والأرضيات الفسيفسائية الرائعة والنقوش التي اكتشفت خلال الحفائر التي أجريت بالمدينة ، وتوضح التاريخ الحضاري لمدينة بطوليمايس .كما تعرض بالمتحف مجموعة من الأواني الفخارية الإغريقية ، وبعض التماثيل المبكرة ، ونقوش إسلامية عثر عليها بالمرج [19].
11-متحف قصر ليبيا :
يقع هذا المتحف بمنطقة قصر ليبيا التي تقع الى الشرقمن مدينة البيضاء ، وافتتح هذا المتحف رسميا في 18/4/1972 م[20] ،وقد خصص لعرض الأرضيات الفسيفسائية التي كشف عنها في الكنيسة الشرقية التي لا تبعد كثيرا عن المتحف ، وتعد الفسيفساء المعروضة اجمل ما عثر عليه من فسيفساء في ليبيا في العصر البيزنطي .


12-متحف البيضاء :
يقع عند مدخل مدينة البيضاء ، وقد افتتح في عام 1988م ليعرض مجموعة من اللقى الأثرية عثر عليها في موقع مدينة بلجراي تمثلت في أواني فخارية مختلفة الأحجام والأنواع ترجع إلى العصرين الإغريقي والروماني ، كما تعرض به أجزاء من منحوتات ونقوش رومانية ، إضافة الى عينات من التاريخ الطبيعي ، والمقتنيات الشعبية .
13- متحف النحت / شحات :
أعيد افتتاح هذا المتحف عام1945 م ، وكان يشغل مكان مبنى إيطالي يتكون من عدة قاعات خصصت لعرض المنحوتات التي عثر عليها في حفائر المدينة ، من بينها مجموعة رائعة من التماثيل الرومانية المنسوخة عن أصول إغريقية ، وعرضت به مجموعة من النقوش التاريخية مثل وصية بطليموس ، وقرارات أغسطس وغيرها ، إضافة إلى عينات من المسكوكات الإغريقية والرومانية والإسلامية ، واقفل المتحف في أواخر الثمانينات بسبب تصدع جدران المتحف .
14- متحف الحمامات / شحات :
متحف صغير أقيم في حجرة خلع الملابس بحمامات تراجان لعرض مجموعة من المنحوتات عثر عليها أثناء حفائر الحمامات لعل أهمها تماثيل الحسناوات الثلاث وتمثال الاسكندر الأكبر[21] ، وقد اقفل المتحف بعد تعرضه للسرقة في أواخر الثمانينات .
(معروضات المتحفين السابقين موجودة ألان في المخازن ولا يوجد متحف بهذه المدينة الأثرية الهامة ) .
15-متحف سوسة :
كان يوجد هذا المتحف داخل أسوار المدينة الأثرية في قاعة كبيرة ترجع إلى العهد الإيطالي ، وتمثلت معروضاته آنذاك في مجموعة من النقوش والمنحوتات التي عثر عليها في حفائر المدينة وتلقي بعض الأضواء على تاريخها ، إضافة إلى لوحات فسيفسائية جلب بعضها من كنيسة رأس الهلال [22]. وقد نقلت محتويات هذا المتحف لتعرض في متحف جديد اكبر حجما من سابقه ، أضيفت إليه العديد من المعروضات الجديدة لعل أهمها كمية كبيرة من الأواني الفخارية المختلفة الأنواع والأشكال ، التي عثر عليها في القبور الإغريقية بالمدينة ، إضافة إلى العديد من اللقى والنقوش التي تعود إلى العصر الهللنستي وحتى العصر الإسلامي ، ويمكن أن يشاهد الزائر له مجموعة من المكتشفات عثر عليها في البحر ، والكثير من الآثار الي تعبر عن انتشار المسيحية بهذه المدينة .
16- متحف القيقب :
شغل هذا المتحف قلعة القيقب التركية [23] ، بعد ترميمها وإجراء الإصلاحات عليها حتى تصبح مناسبة أن تكون متحفا ، واحتوى المتحف على قسم للتاريخ الطبيعي من أحياء وجيولوجيا ، وقسم للعاديات والمقتنيات الشعبية والجهاد الليبي [24].وافتتح المتحف للجمهور في 15/ 4/1975م .
17-متحف جرمة الأثرى:
بني هذا المتحف في مدينة جرمة الأثرية جنوب ليبيا ،وافتتح في أوائل السبعينيات ، وذلك ليكون سجلا حافلا لجميع المظاهر الحضارية والأثرية لوادي الآجال ومدينة جرمة القديمة [25] منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر الإسلامي . وقد تم إغلاقه منذ فترة ، وتجرى الاستعدادات على قدم وساق لإعادة افتتاحه قريبا .
هذه هي المتاحف الأثرية التي تضمها الأرض الليبية ، إضافة الى بعض المعروضات الأثرية التي تضمها معارض الجمعيات الاستكشافية مثل جمعية الهيلع في درنة ، ومعارض المقتنيات الشعبية مثل ما في غدامس ،ومكاتب الآثار مثل زليطن ومعارض الجامعات مثل معرض قسم الآثار بجامعة قار يونس ، و هذا لا يدخل في سياق موضوع هذا البحث .
ويمكن تقسيم المتاحف الأثرية سالفة الذكر الى عدة أنواع :
1- المتاحف العامة : والتي تعبر معروضاتها عن تاريخ ليبيا وحضارتها منذ أقدم العصور ، باختيار عينات أثرية من مدن ومواقع مختلفة ترجع للعصور التي مرت بها ليبيا ، تعرض وفقا التسلسل التاريخي ، وخير مثال على ذلك المتحف الجماهيري .
2- المتاحف الإقليمية :وهي المتاحف التي تعرض بها أثار مدينة او اقليم بعينه ، وهذه ترتبط عادة بالمدن الأثرية وتقام فيها مثل متاحف صبراتة ولبدة وشحات وطلميثة… وغيرها .
3- المتاحف التخصصية :وهي التي تختص بإبراز فترة حضارية واحدة مثل المتحف الإسلامي بطرابلس والمتحف البونيقي بصبراتة .
4- المتاحف الأخرى :ويمكن أن يندرج تحتها تلك المتاحف التي أقيمت بسبب اكتشافات مهمة ، وخير مثال على ذلك متحف قصر ليبيا ،ومتحف العقورية ومتحف جنزور .
وجاء الآن دور تقويم تلك المتاحف وإبراز سلبياتها وإيجابيتها ، وانعكاس ذلك على الحركة السياحية ، ومن الضروري أن يكون التقويم وفقا للمفهوم الحديث للمتاحف وللرسالة المرجوة من وراء إقامتها ، وسوف يكون التقويم من عدة جوانب عامة وخاصة :
أولا: التوزيع الجغرافي :
يلاحظ عند النظر الى التوزيع الجغرافي للمتاحف في ليبيا أنها تتركز في المنطقة الشمالية منها مقارنة بالجنوبية (تراجع الخارطة المرفقة)، فلا يوجد في الجنوب إلا متحف واحد هو متحف جرمة ،وهذا من شأنه أن يعمق الإحساس بأهمية الحضارات الشمالية_التي أغلبها قام بها غرباء عن أصحاب البلاد الأصليين-مقارنة بالحضارات التي شهدها الجنوب التي يغلب عليها الطابع الليبي الصرف ، ومن هنا وجب إعداد خطة طموحة بإنشاء عدة متاحف في الجنوب .
كما إن التوزيع الجغرافي لها لا يرتبط بالكثافة السكانية ،بقدر ما يرتبط بوجود آثار في المدينة أو القرية من عدمه فالكثير من المدن الرئيسية لاتملك متاحف مثل مصراتة والزاوية وسرت وبنغازي وطبرق وسبها ، مقارنة بالمدن الصغيرة التي تملك متاحف مثل جرمة و العقورية والدرسية والمدينة وسوسة وغيرها، وكان يفترض أن تقام متاحف في المدن ذات الكثافة السكانية حتى ولو لم تملك أية معالم أثرية بسبب أن تلك المدن تملك المرافق الأساسية للسياحة ، وتوجد بها كثافة سكانية فتكون محط أنظار السياح لزيارتها ومثلا على ذلك مدينة سبها عاصمة مدن الجنوب كان الأجدى أن يقام بها متحف بسب كثرة زوارها وأنها رمزا لمدن الجنوب ، يهتم بالحضارات العريقة التي شهدتها هذه المنطقة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصور الإسلامية [26] .وعلى الرغم من أهمية إقامة المتاحف في المدن الأثرية إلا انه يفضل في بعض الحالات إقامة متاحفها بعيدا عنها إذا كانت هي تقع في منطقة نائية وبجانبها مدينة رئيسية الأفضل إقامة المتحف بها على سبيل المثال متحف المدينة ( سرت القديمة) كان من الضروري إقامته في سرت ذلك أن هذه المدينة يأتي إليها الكثير من الزوار على المستوى الدبلوماسي والسياسي والمحلي ، ويلاحظ المتتبع لحركة متحف المدينة أن الإقبال على زيارته غير شديدة ويظل أياما مقفلا ، وهذا ينطبق على متحف جرمة أيضا ،ولكن على وجه التقريب.وعند النظر كذلك الى مدينة بنغازي ثاني مدينة في ليبيا فانه لا يوجد بها أي متحف الآن على الرغم كثافتها السكانية ووجود آثار بها ، ويوجد مشروعان لإقامة متحفين بالمدينة ولكن لم يتحقق أيا منهما ، ويفترض في هذا الصدد أن تتضافر الجهود لإقامة متحف واحد بالمدينة على غرار المتحف الجماهيري بدلا من تشتيت الجهود في متحفين ، أو إقامة متحف اثري وآخر عسكري فالمدينة وليبيا في حاجة لهذا النوع من المتاحف . وليس هذا فحسب فمن الضروري إقامة متاحف عامة مثل المتحف الجماهيري في المدن الرئيسية لتوضيح التاريخ الحضاري لهذه البلاد . كما يجب استغلال المدن التي يقبل عليها السياح بسبب بعض المعالم السياحية ولا يوجد بها معالم أثرية بارزة مثل مدينة طبرق وبناء متحف اثري ضخم بها بحيث يكون قبلة للسياح الذين يأتون إليها لزيارة مقابر الحرب الكونية الثانية ، وهذا نوع من الدعاية لآثار ليبيا وحضارتها لان بعض أولئك السياح يزرون طبرق فقط ويرجعون عن طريق مصر دون أن يعرفوا أي شي عن الماضي العريق لليبيا وآثارها .كما يجب الاهتمام بالمتاحف في المدن الأثرية الرئيسية ،وأن تصبح عامل جذب للسائح عند زيارته لتلك المدن فيقبل على زيارتها ، ولكن يلاحظ عند النظر الى مدينة شحات أنها الآن لا تملك أي متحف على الرغم من الثروات الأثرية التي توجد بها وتعد عامل جذب للسياح فلو تم إنشاء متحف كبير بهذه المدينة لازداد عدد السياح ، وزاد إقبالهم على زيارة معالمها .كما يجب أن يتبوأ المتحف موقعا مميزا في المدينة بحيث يمكن الوصول إليه بسهولة ، وألا يكون في مكان نائي ومعروف لدى الجميع ، واغلب متاحف ليبيا تقع داخل المدن الأثرية باستثناء المتحف الجماهيري _الذي بني داخل السراي الحمراء _ وعلى الرغم من شهرة هذا المبنى ألا أن المتحف يكاد يختفي داخلها ، ولا يطل على الخارج إلا بمسافة ضيقة تتمثل في باب ضخم في أحد جوانب السراي ذات الجدران المرتفعة ، ومدخل المتحف لا يكاد يرى لكل داخل للساحة الخضراء التي تطل عليها السراي الحمراء ، لذا كان من الأفضل أن تقام المتاحف في أماكن بارزة حتى يصل إليها السياح بسهولة ودون معاناة .
إذاُ تحتاج المتاحف الى إعادة توزيع من جديد من الناحية الجغرافية وفقا لما ذكر أعلاه ( تراجع الخارطة المرفقة) ، ببناء متاحف جديدة وتطوير المتاحف القديمة ، وإعادة إفتتاح المتاحف التي اقفلت بسبب عدم حمايتها بشكل مناسب ، وتعرضها لسرقات عديدة ، وذلك حتى تساهم في تنشيط الحركة السياحية .
ثانيا:عمارة المتاحف وتصميمها :
لقد جرت العادة أن تستغل المباني التاريخية من قلاع وقصور لإقامة المتاحف بعد إجراء التعديلات والإصلاحات عليها حتى تكون ملائمة للمعروضات ، وعلى الرغم من أن هذا قد يأتي على حساب تلك المباني فقد لايهتم السائح أو الزائر بالأثر المعماري ، وينصب اهتمامه بالأشياء المعروضة ، كما أن التعديلات تضر كثيرا بالشكل العام لتلك المباني ويفضل في هذا الشأن أن تقام متاحف بها ترتبط بالمباني التاريخية مثل أن تستغل القلاع في إقامة المتاحف العسكرية والمنازل القديمة للمقتنيات الشعبية التي تعود إلى نفس الفترة ، والمحافظة على المبنى كتراث تاريخي من حق الجميع الاستمتاع برؤية ما كان عليه في الماضي، وقد استغلت العديد من المباني القديمة كمتاحف في ليبيا مثل قلعة القيقب والسراي الحمراء وقصر الكونتيسة …وغيرها وهذه ينطبق عليها ما قيل أعلاه .كما أن الكثير من المتاحف قد شغلت مباني كانت تستخدم لإغراض أخرى مثل متاحف صبراتة وطلميثة وقصر ليبيا والبيضاء وسوسة ، إذاً هي غير مهيأة أن تكون متحفا ، وهذا ينعكس على نجاح المتاحف في أداء رسالتها وما مدى ملاءمتها لاستقبال السياح . وهناك نوع آخر من المتاحف بني أساسا ليكون متحفا مثل متاحف جنزور و المدينة والعقورية وجرمة والمتحف الجماهيري ومتحف لبدة ، باستثناء المتحفين الأخيرين يلاحظ إن تلك المتاحف بسيطة جدا لا تعدو أن تكون إلا مساحات مربعة مسقوفة ومقسمة من الداخل إلى قاعات صغيرة ، ومثل هذه المتاحف لا يوجد بها مرافق ملحقة بها ، ولا تستوعب الكثير من السياح دفعة واحدة ، والبعض منها لا يملك أي شكل مميز حتى تجذب المتاحف الأنظار ليس بمحتوياتها فقط بل أيضا بشكلها الخارجي المتميز سواء من حيث ضخامة المبنى أو من حيث طرازها ، فالشكل الخارجي قد يعد عاملا مهما في الدعاية للمعروضات التي داخل المتحف والإقبال على زيارته.ويعد متحفا لبدة والجماهيري من افضل المتاحف التي خططت وفقا لمخطط حديث مدروس روعيت به المعايير الأساسية في تشييد المتاحف [27] . لكن يلاحظ على هذه المخططات الحديثة أنها غير منسجمة في عمارتها مع الطابع المحلي ، الشكل العام لها قد تصادفه في أية دولة ، لذا يفترض أن تعبر المتاحف عن طابع العمارة المحلية ، وهذا يجعلها مباني مميزة وكلما كان طرازها لافت للانتباه و مستمد أصوله من العمارة المحلية كان إقبال السياح عليها إعجابا بطرازها المعماري أولا وبما تحويه ثانيا ، ومن جهة أخرى فهي بهذا تساعد في تعميق الإحساس بالذات القومية لأفراد المجتمع[28] .
ثالثا : طريقة العرض المتحفي :
إن المتاحف ليست مهمتها حفظ الآثار فقط ، وإذا كانت كذلك فهي مخازن للاثار وليست متاحف ، وفي الحقيقة فان الكثير من المتاحف في ليبيا لا تعدو كونها مخازن للتحف الأثرية بسبب ان المتحف عبارة عن أروقة مزودة بخزانات عرض توضع بها المعروضات أو تخزن بها ، أو بسبب احتواء المتحف على كميات كبيرة من التماثيل والأواني الفخارية واللقى الأخرى وضعت دون نسق محدد وعرضت في أسلوب مشوق حيث تبدو مكدسة مثل المخازن مثل متحف صبراتة وبعض قاعات المتحف الجماهيري ومتحف لبدة ، وطريقة العرض هذه لا تجذب السياح بل الأمر خلاف ذلك ، إذاً من الضروري ان يكون العرض المتحفي مبنيا على قواعد علمية وفنية صحيحة تتلخص في الاتي :
1- عدم تكديس المعروضات في خزانات العرض لان ذلك يفقدها قيمتها العلمية والجمالية و لا يهتم بها السائح .
2- تصنيف المعروضات وفقا للنوعية أو المادة أو الاستعمال ، وتكون منسجمة معالهدف الذي وضعت من أجله مما ييسر على السائح سهولة الاتصال بها ويدرك أهميتها .
3- توفير الإضاءة المناسبة سواء طبيعية أو صناعية لإظهار قيمة وجمالية الشيء المعروض التي ترتبط بمكانه وزاويته .
4- استعمال وسائل الإيضاح السمعية والبصرية المناسبة للمعروضات .وغيرها من الأمور التي لا يسع المجال لذكرها هنا .
وعند النظر الى الشروط السابقة وتطبيقها على المتاحف في ليبيا يمكن ملاحظة الآتي:
1- إن اغلب المتاحف تعرض معروضاتها وفقا للتسلسل الزمني سواء من حيث القاعات أو من حيث الخزانات مثل المتحف الجماهيري ، أو تقسم المعروضات الى مجموعات مثل النحت كمجموعة والفخار مجموعة.. وهكذا مثل متحف صبراتة ، وهناك طريقة أخرى طبقت في متحف لبدة وهي تقسيم المعروضات وفقا لوظيفتها بحيث تكون قاعة للحياة الدينية وأخرى للحياة الاقتصادية وهكذا بحيث تعرض في كل قاعة أنواع مختلفة من الآثار تربط بينها وظيفتها وليست نوعيتها أو مادتها .وكل نوع من أنواع العروض السابقة له مميزات وعيوب فالبعض منها قد يتفق مع السائح ولا يتماشى مع الدارس أو الباحث ، عموما يجذب السائح -في الغالب - الطريقة الأخيرة التي يطلع من خلالها على الحياة اليومية القديمة .
2- طريقة العرض المتحفية في الكثير من المتاحف غير خاضعة لأية قواعد علمية أو فنية فهي عبارة عن أماكن عرض لبعض الآثار فقط ،إذا هي لا تجذب السائح إليها مطلقا .
3- أما الإضاءة فيفضل ان تكون طبيعية لانها لاتضر بالأشياء المعروضة لان مهمة المتحف المحافظة على معروضاته وليس إتلافها ، ولتوفير الإضاءة الطبيعية يجب ان تؤخذ في الحسبان عند تصميم المتحف منذ البداية إلا انه يصعب التحكم في تلك الإضاءة وتوجيهها في صالح العرض والزائر معا ، أما إذا لم تتوفر فيلجأ الى الإضاءة الصناعية التي تضر بالآثار خاصة على مدى بعيد على الرغم من وجود إضاءة صناعية اقل ضررا يجدر استعمالها في المتاحف وتوجيهها بما يخدم طريقة العرض المتحفية .وقد لوحظ ان اغلب متاحف ليبيا تستخدم الإضاءتين الطبيعية والصناعية جنبا الى جنب وبدرجات متفاوتة ، إلا ان الكثير من المتاحف تستعمل الإضاءة الصناعية في إبراز المعروضات بتسليط الضوء المباشر عليها وعلى الرغم من ان هذه الطريقة تكسب الشيء المعروض جمالا آخذا إلا ان هذا يضر بالأثر على المدى البعيد ، وقد طبق هذا في المتحف الجماهيري والمتحف البونيقي بصبراتة ، ومن الضروري ان تكون المصابيح مناسبة لأثاث المتحف ومخفية قدر الإمكان فلا تستعمل الثريات المبهرجة اللافتة لانتباه السياح اكثر من المعروضات نفسها مثل ما في متحف لبدة ، وكلما استعملت الإضاءة بطريقة سليمة فهذا ينعكس على سلامة العرض والمعروضات [29]، وتعد من مظاهر الجذب للسياح تظافرا مع العوامل الأخرى .
4-ان الوسائل التوضيحية المستعملة في اغلب المتاحف في ليبيا لا تعدو كونها لوحات توضيحية مقروءة مثل الخرائط و المعلومات التاريخية المكتوبة وبعض الوسائل الأخرى المكتوبة باللغة العربية فقط ، وهذا يجعل السائح من الصعب ان يتعامل معها ، وعلى الرغم من بساطتها الا انه يجب ان تكتب بعدة لغات لو أريد بها ان تكون ذات نفع للسياح ،وحتى تكون وسائل الإيضاح ذات جدوى يفضل استعمال التقنية السمعية والبصرية ( Audio-Visual Media) [30] ، حيث تزود المتاحف بشاشات عرض في أروقتها تعرض لتاريخ وآثار المنطقة المعنية ، او تعرض أفلام وثائقية عن المناطق الأثرية التي أتت منها المعروضات ، او شرائح ملونة عنها ،او الحاسب الآلي المبرمج بمعلومات يمكن للسائح الحصول عليها بضغط زر واحد فقط ،إضافة الى الوسائل السمعية المتمثلة في معلومات مسجلة تذاع في القاعات بمكبرات الصوت او الهواتف ،ويفضل ان تكون تلك الأجهزة في متناول السائح ويتعامل معها لوحده ، وذلك حتى لا تفرض عليه فرضا وتعد من وسائل جذب السياح للمتحف ، لم تطبق هذه الطريقة المتطورة الا في المتحف الجماهيري وبشكل اقل في متحف لبدة ، وبعد مضي عدة سنوات على افتتاح هذين المتحفين تحتاج تلك التقنية الى تطوير وصيانة فاغلب الأجهزة عاطلة . ويفترض ان تطبق هذه التقنية في اغلب متاحف ليبيا وبعدة لغات حتى يمكن بواسطتها الدعاية لحضارة ليبيا وأثارها ومن شأن هذا ان يحفز السياح على زيارة المتاحف والاستمتاع بمعروضاتها ومن ثم التشوق لزيارة المدن والمواقع الأثرية .
5- تحتاج المتاحف الى الدعاية حتى تكون قبلة للسياح وللزوار ، تتمثل هذه الدعاية في ابسط صورها في إصدار الادلة الاثرية عن معروضات تلك المتاحف وان تكون بعدة لغات ومتيسرة للسياح وباسعار معقولة ، والمتاحف في ليبيا فقيرة جدا في هذا الجانب ، من الضروري ان تتكفل مصلحة الاثار اوالهيئة العامة للسياحة بإصدار كتيبات سياحية عن المتاحف وأن تتم مراجعتها من قبل المتخصصين ، إضافة للإعلان عن المتاحف في وسائل الاعلام المختلفة مرئية و مسموعة في الداخل والخارج ، كذلك إصدار ملصقات عن بعض معروضات المتاحف وتعليقها في المكاتب السياحية المشهورة لجذب السياح ، وإستغلال وسائل الاتصال الحديثة في الدعاية للمتاحف والترغيب في زيارتها مثل الاقمار الصناعية ،وشبكة الانترنيت . كما ان من شأن إقامة المعارض المؤقتة في المتاحف بإستجلاب او استعارة معروضات من متاحف اخرى والدعاية لها ان يجعل السياح يقبلون على زيارتها ، وكلما زاد عنصر التشويق في المعروضات زاد عدد الزائرين ، كما أن ثبات طريقة العرض والمعروضات من شأنه ان ينفر السياح من إعادة زيارتها فمن الضروري التجديد في المعروضات وأسلوب عرضها .وهذا لا يوجد في متاحف ليبيا فكل زائر لمتحف من النادر ان يعيد زيارة نفس المتحف مرة أخرى .
رابعا :علاقة السياح بالمتاحف :
وإذا كان واقع المتاحف في ليبيا هكذا ،ومازالت السياحة في بدايتها فلا يتوقع ان يكون إقبال السياح شديدا على المتاحف ، اغلب السياح يأتون الى ليبيا من خلال مكاتب في شكل أفواج سياحية برنامجها محدد وكثيرا ما تستبعد المتاحف من برامجها إما جهلا من المنظمين بتلك المتاحف واهميتها ، او ان المتاحف في حد ذاتها لم تستطع أن تشد اليها انظار المشرفين على البرامج السياحية والذين كثيرا ما يحددون برنامج الزيارة قبل مجيئهم الى ليبيا ، لذا لم تشهد المتاحف اقبال السياح عليها بسبب واقعها ،وللأسف لا توجد إحصائيات لزوار المتاحف من السياح[31] حتى يمكن إجراء المقارنات اللازمة الا ان المتتبع لحركة المتاحف يدرك ان زوارها من السياح قلة ولو طبقت البرامج الطموحة المقترحة للمتاحف التي ذكرت أعلاه لزاد الاقبال على المتاحف ليس من قبل السياح فقط بل حتى من قبل الزوار المحليين ..
خامسا : دور العناصر البشرية :
يعول على العناصر البشرية المدربة كثيرا في إدارتها للمتاحف ، فهذه المؤسسات ذات الرسالة العلمية والتعليمية والثقافية ما كان لها ان تؤدي رسالتها على احسن وجه إذا لم تتوفر العناصر الكفوءة لإدارتها والإشراف عليها سواء من الناحية الإدارية أو الفنية أو التنشيطية وذلك بإعداد البرامج للرفع من مستوى أداء المتحف ومواكبته لتطور العصر ، وهذه العناصر لن يتأتى لها ذلك إلا إذا كانت مؤهلة في هذا المجال ، وفي غياب المتخصصين في علم المتاحف - مثلما في ليبيا - لن يستطع المتحف ان يؤدي رسالته حتى إذا توفرت الأموال لبنائه والأنفاق عليه بسخاء ، فالبناء المادي من الضروري ان يتبعه أو بالأحرى يسبقه بناء وتطوير العنصر البشري لان الأخير سيخطط للمتحف منذ كان فكرة حتى يصبح واقعا ملموسا ، وان وجود المتخصصين بالمتاحف في ليبيا من شأنه ان يحقق البرامج الطموحة التي تهدف الى تطوير تلك المتاحف وتكون عامل جذب للسياح .
ومما تقدم يمكن القول إن نجاح المتاحف في أداء رسالتها على احسن وجه يتوقف على عدة عوامل منها قيمة الأشياء المعروضة وارتباطها بالهدف الأصلي من المتحف ، وحسن العرض ،والقدرة على التشويق ، وسهولة الإرشاد وقوة الدعاية والقدرة على اجتذاب السياح والزوار .وحتى يحدث ذلك يتطلب الاهتمام بها والإنفاق عليها لتظهر بالمظهر اللائق وتلعب دورا في النهوض بالحركة السياحية التي زادها الآثار والمتاحف .
[1] -يراجع للمزيد عن تعريف المتاحف ومفهومها :عبد الرحمن الشاعر ، مقدمة في تقنية المتاحف التعليمية،( الرياض : 1992) ص ص.4 ومايليها.
[2] -يراجع عن دور المتاحف في الترفيه: عياد العوامي ،"المتاحف ودورها في مجال الترفيه " آثار العرب ،7-8 (1995)ص ص.27-29.
[3] -يراجع للمزيد عن ذلك : صالح ونيس ، " مفهوم المتاحف وطرق حمايتها " الثقافة العربية 3 (1986) ص ص.8-23 .
[4] -يراجع عن تاريخ تطور المتاحف :فوزي الفخراني ، "متاحف الآثار نشأتها وتطورها " مجلة الحصاد ص ص.1-5؛ عياد العوامي، مقدمة في علم المتاحف ( طرالبلس: المنشأة العامة للنشر والتوزيع، 1984 )، ص ص.13-26.
[5] -محمود النمس و محمود ابوحامد ، دليل متحف الآثار بالسراي الحمراء بطرابلس ( منشورات مصلحة الاثار،طرابلس :الدار العربية للكتاب ، 1977 ) ص.33.
[6] -تختلف قائمة المتاحف هذه عن القائمة التي وردت في كتاب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، دليل المتاحف في الوطن العربي ،( القاهرة :1973 ) ص ص.65-78 .
[7] -تبلغ المساحة الإجمالية للمتحف حوالي عشرة آلاف متر مربع ، ويتكون المتحف من أربعة طوابق متناسبة مع ارتفاع مبنى السراي .
[8] -يراجع عن ذلك :M. Bouchenaki, "The Libyan Arab Jamahiria Museum: a first in the Arab World" MUSEUM 164(1989) 230-232 .
[9] -يعاب على هذا التصميم انه غير منسجم مع الطراز المعماري للسراي الحمراء فهو ذو تصميما حديث داخل مبنى قديم .
[10] -يعد العقد الذي أبرمته ليبيا مع اليونسكو عام 1980 من اضخم العقود الودائعية ، فقد اودعت ليبيا لحساب تلك المنظمة مبلغ (34344000 دولار) لإنشاء ذلك المتحف ، يراجع في هذا الشأن :حسن نافعة ، العرب واليونسكو ،( الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، رقم 135: 1989)ص.262 .
[11] -يراجع عن هذا المتحف : عياد العوامي ، دليل متحف التاريخ الطبيعي ، (طرابلس :منشورات مصلحة الآثار ، 1976).
[12] -يراجع للمزيد عن هذا المتحف :عبد الله شيبوب (وآخرون ) ، المتحف الجماهيري ،(منشورات مصلحة الآثار ومنظمة اليونسكو:1988) ؛ محمد فكرون ، "المتحف الجماهيري" آثار العرب 3 (1991) ص ص.108-116.
[13] -يراجع عن هذا المتحف : سعيد علي حامد ، المعالم الإسلامية بالمتحف الإسلامي بمدينة طرابلس ،(منشورات مصلحة الآثار:1978) ؛ جمعة عبد الصبور، "جولة داخل المتحف الإسلامي بطرابلس " الثقافة العربية 2 (1985)ص ص.92-98.
[14] -يراجع للمزيد عن هذا المتحف : محمد ابوعجيلة ، " المتحف البونيقي بصبراتة "، آثار العرب 4 (1992)ص ص.90-94.
[15] -يراجع عن تلك الحفائر والمتحف : محمود النمس ، دليل منطقة حفائر جنزور الأثرية، (منشورات مصلحة الآثار:ب ت.) .
[16] -يراجع عن هذا المتحف :مراقبة آثار لبدة، "نبذة عن المتحف الجديد لمدينة لبدة" آثار العرب 1(1990)ص ص.54-57؛مصلحة الآثار، دليل موجز عن متحف لبدة،(منشورات مصلحة الآثار:1423).
[17] -يراجع عن هذا المتحف : مسعود شقلوف ، " إنشاء متحف المدينة ، سرت القديمة، " الثقافة العربية 8 (1985) ص ص. 76-77.
[18] -يراجع عن معروضات المتحف : خالد محمد الهدار ، "جولة دراسية داخل متحف توكرة " آثار العرب ، 2 (1991) ص ص.70-74 .
[19] - يراجع عن هذا المتحف : عبد الكريم الميار ، دليل متحف طلميثة ، ( منشورات مصلحة الآثار :1976) .
[20] -مركز التوثيق التربوي ، إنجازات وزارة التعليم والتربية في سنوات ما بعد الثورة /في مجال الآثار، ( طرابلس :1973 ) ص ص .77-83 .
[21] -يراجع عن معروضات متحفي النحت والحمامات : عبد الكريم الميار، دليل متحف شحات ،( منشورات مصلحة الآثار :1976).
[22] -يراجع عن هذا المتحف : عبد الكريم الميار ، دليل متحف ابولونيا / سوسة ، ( منشورات مصلحة الآثار: 1977).
[23] -تقع القيقب بالجبل الأخضر شمال الطريق الممتدة من الفائدية إلى لملودة ، وجنوب مدينة الابرق بحوالي 8 كم .
[24] -يراجع عن هذا المتحف: بريك عطية و صالح ونيس ، دليل متحف القيقب ، ( منشورات مصلحة الآثار :ب ت ).
[25] -محمد سليمان أيوب ،" أخبار أثرية/ المحافظات الجنوبية " ليبيا القديمة 3-4(1966-1967)ص .130 .
[26] - لقد وضعت تصورات لاقامة متحف في سبها منذ السبعينيات ، لكن المشروع لم يشهد النور حتى الآن .
[27] - يراجع عن تلك الأساسيات : عبد الرحمن الشاعر ، مقدمة في تقنية المتاحف التعليمية ، ص ص. 21 وما يليها ؛ يراجع كذلك العدد رقم 164 من مجلة Museum الصادرة عن اليونسكو عام 1989 والذي خصص لعمارة المتاحف ، وتراجع أيضا الملاحظات التي اوردها فوزي الفخراني في مجلة الحصاد ص ص.6-8.
[28] - يراجع عن علاقة المتحف بالذات القومية : عبد الوهاب المسيري " المتحف والذات القومية في الغرب " المتحف العربي ، السنة الثالثة العدد الأول (1987) ص ص .6-10 ؛ نفس المؤلف " متحف النيجر و الذات القومية السمحة " المتحف العربي ، السنة الثالثة العدد الرابع (1988) ص ص . 6-11 .
[29] -يراجع عن أهمية الإضاءة في المتحف : : عبد الرحمن الشاعر ، مقدمة في تقنية المتاحف التعليمية ، ص ص.53وما يليها .
[30] -يراجع عن أهمية هذه التقنية في المتاحف :J. Benes,"Audio-Visual Media in Museums" MUSEUM 28(1976) 121-124.
[31] -لم يهتم احد بإجراء احصائية لزوار المتاحف من السياح مع انه يمكن حساب الزوار من خلال التذاكر المصروفة مثلما حدث في الست الشهور الاولى من افتتاح المتحف الجماهيري عندما بلغ الزوار 50000 شخص ، ولكن لايعرف عدد السياح من بين الزوار ، كما يلاحظ ان الكثير من افواج السياح يدخلون مجانا لذا يصعب حصرهم ، وكان يفترض ان تكون تذاكر السياح خاصة سواء من حيث القيمة او الشكل لتساعد في عملية الحصر ومعرفة ما مدى إقبال السياح عليها لإعداد الدراسات اللازمة .

حول ترجمة مصادر تاريخ ليبيا القديم د. الدويب 2


الكتاب السابع عشر من جغرافية سترابون

لاغرو انه حيثما ذكر سترابون ذكر كتابه المميز الجغرافيا ، واذا اراد أي باحث ان يعرف ما كتب عن ليبيا ومصر في ذلك المصدر فانه يهرول الى الكتاب السابع عشر منه ، وسريعا ما تظهر لديه إشكالية التعامل مع سترابون وجغرافيته ، و في هذا الصدد فانه لديه خيارات محدودة فإما ان يلجأ الى المصدر في لغته الاصلية (الاغريقية) و هذا ليس بمقدور الا القليل ، و اما ان يلجأ الى بعض التراجم المنقولة عن لغة وسيطة ( الانجليزية او الفرنسية مثلا )، وهنا احيانا يحتاج الى ترجمة النص الى العربية اذ استعصيت عليه اللغة الاجنبية ، اما الخيار الجديد فانه يرجع الى المصدر في ترجمة عربية جديدة للنص الاغريقي مباشرة ، وهذا ما تحقق من خلال اصدار ا.د. محمد المبروك الدويب كتابه الثاني في سلسلة ( من مصادر التاريخ القديم ) ، المعنون بالكتاب السابع عشر من جغرافية سترافون (سترابون) ، وصف ليبيا و مصر ، الذي نشرته منشورات جامعة قاريونس(2004) في طبعة انيقة متكونة من 145 صفحة من ترجمة الكتاب السابع عشر اضافة الى 107 صفحة من النص الاغريقي للكتاب ذاته ، وهذا مكن الباحثين من التعامل مع النص الاغريقي و ترجمته العربية في آن واحد .
و ما ينفك الاثري و مؤرخ التاريخ القديم ان يرد على بئر المصادر الكلاسيكية لاسيما الجغرافية منها لينهل منها ، لعلمه ان بحثه سوف يشوبه النقص و يعتريه الضعف دون الرجوع الى تلك المصادر ، و تقع جغرافية سترابون في مكان مميز بين المصادر الجغرافية القديمة لما حوته من كم وفير من المعلومات الجغرافية التي كان للكثير منها الريادة لسترابون في ايرادها او ذكرها ، فلا غرو ان يلجأ الباحثون الى هذا المصدر .
ومن المفيد الاشارة الى ان اهمية عمل سترابون جاءت من انه كان شاهدا عيان للكثير من الاحداث التي عاصرها ، وانه زار الكثير من المواقع الجغرافية التي وصفها وصفا دقيقا ، كما انه لم يهمل من سبقه من الكتاب القدامى فقد رجع الى ما كتبوه و نهل من معينهم ولكن دون ان يكون ناقلا فحسب بل ناقلا و ناقدا و متفحصا لكتاباتهم بحيث بين الغث و السمين منها ووضح مواطن الضعف والقصور في بعض ما كتبوه بعد ان زار المواقع التي تحدثوا عنها وناقش آرائهم استنادا لمشاهداته الشخصية و قراءاته المتنوعة من المصادر المختلفة التي اطلع عليها في مكتبة الاسكندرية ، ومن هنا تأتي اهمية هذا المصدر العتيد واهمية ترجمته من الاغريقية الى العربية ، ويمكن تأكيد ان استاذي أ.د. محمد الدويب كان موفقا غاية التوفيق في اختياره لهذا المصدر ليكون ثاني اعماله المترجمة بعد هيرودوتوس ، فاذا كان هيرودوتوس (ابو التاريخ) ، فان سترابون ابو الفكر الجغرافي و الجغرافية ، فهو وان لم ينفرد بالريادة في الكتابة الجغرافية فانه رائد في الجغرافية الوصفية السياسية والجغرافية التاريخية ليس لقطر بعينه بل للعالم القديم الذي كان معروفا آنذاك ،من خلال كتابه الجغرافية الذي قصد ان يكون دليلا جغرافيا مميزا للعالم القديم لم تنقصه سوى الخرائط المرسومة التي عوضها سترابون بوصفه الدقيق و الشائق ، ويعد سترابون من الكتاب االكلاسيكيين المخضرمين من ناحيتين انه عاش بين ماقبل ميلاد المسيح و بعد ميلاده (بين التاريخ الميلادي وماقبل الميلاد ) وتحديدا ما بين 66-63 ق.م. و 21-19 م ، كما انه احد الكتاب الاغريق الذي انضوى تحت السيادة الرومانية و خدم تحت راية الرومان .
و الكتاب السابع عشر من جغرافية سترابون يعد آخر كتب موسوعته الجغرافية ، وقد كرسه سترابون لوصف ثلاث مناطق جغرافية اولها مصر وثانيها اثيوبيا (السودان) وثالثها ليبيا او بالاحرى الشمال الافريقي ، ويبدو من الاجدى تقديم ملخص لكل منطقة ، حتى يلم القارئ إلماما سريعا بفحوى هذا المصدر الذي اصبح متاحا في اللغة العربية بنكهة اغريقية .
احتوى القسم (الفصل) الاول من الكتاب السابع عشر 54 فقرة ( ص ص. 19-84) ركز فيها سترابون ملاحظاته الجغرافية عن مصر او بالاحرى وادي النيل ، وكان من الطبيعي ان يهتم سترابون بهذا الجزء اولا لانه انهى كتابه السادس عشر بوصف شبه الجزيرة العربية ثم امتد ناحية الغرب لوصف بقية العالم القديم متمثلا في مصر و ما يقع جنوبها ، وما يقع للغرب منها ، كما ان المعلومات الغزيرة التي قدمها عن مصر من الناحية الجغرافية ترجع لانه عاش فترة من الزمن (5 سنوات) في مصر برفقة صديقه الحاكم الروماني ايليوس غالوس الذي صاحبه في حملاته جنوب مصر و اثيوبيا (السودان) مما مكن سترابون من الحديث عن تلك المناطق و على نهر النيل بكل موضوعية بسبب تجواله في تلك المناطق و تسجيل بعض الملاحظات الجغرافية التي كانت له الريادة فيها.
ويبدأ سترابون بوصف نهر النيل من حيث موقعه و منبعه و مسيرته وفيضانه مناقشا اسباب ذلك الفيضان ، واصفا طبوغرافية هذا النهر وروافده و مسيرته من الجنوب الى الشمال وتفرعاته ، ذاكرا الشعوب او السكان التي تقطن على ضفافه (الفقرات 2-5 ص ص.19-29) لافتا الانتباه الى بعض الوقائع التاريخية التي جرت في الاماكن التي يصفها جغرافيا ، وقد انتقل بعد وصفه للنيل للحديث عن الاسكندرية بوصفها اهم مدينة في مصر آنذاك (الفقرات 6- 13 ص ص.29-43) حيث يصف موقعها و طبواغرافية هذا الموقع و سبب اختيار الاسكندر لموقعها لتأسيس مدينة الاسكندرية وملخص تاريخي لملوكها وحكامها وعلاقتهم بتطور المدينة ، ولعل اهم ما قدمه سترابون للاثريين انه وصف الاسكندرية من الداخل (شوارعها و مبانيها و منشأتها البحرية وغيرها )، مما سهّل على الباحثين وضع تصور شامل لمدينة الاسكندرية و طبوغرافيتها معتمدين اولا على وصف سترابون وثانيا على الحفريات الآثرية التي ايدت في كثير من الاحيان ما يذكره سترابون ، ووصفه هذا يعد اول دليل لهذه المدينة جاء من جغرافي اقام بها ردحا من الزمن ومن ثم لا مندوحة من الرجوع الى هذا المصدر والاستفادة منه .ومما تجدر الاشارة اليه ان الحفريات الآثرية الاخيرة في ميناء الاسكندرية قد اثبتت صحة وصدق وصف سترابون لمدينة الاسكندرية ، وقد كان وصفه بمثابة المرشد لمسح المنشأت البحرية والمباني المطلة عليها .
ويواصل سترابون مسيرته الوصفية لبقية اقاليم مصر ومدنه سواء المطلة على البحر المتوسط ام المقامة على ضفتي النيل ام المطلة على البحر الاحمر (الخليج العربي عند سترابون) ، مدن مصرية/ اغريقية تنبض بالحياة او مدن مصرية قديمة لم تبقَ الا اطلالها ، و في هذا الصدد فان ما يذكره سترابون عن مدن مثل طيبة (فقرة 46) و ابيدوس و ممفيس (فقرة 31) و هليوبوليس وعن الاهرامات (فقرات 33-34) يعد جديرا بالملاحظ واسهاما منه في الكشف الاثري عن الآثار المصرية القديمة (الفرعونية) ، اما وصفه للاقاليم والمدن النابضة بالحياة فهو وصفا دقيقا لها متنقلا بين مدينة وأخرى او اقليم وآخر واصفا لارضه وبيئته بما فيه من حيوان ونبات ، والسكان ومعتقداتهم ، ومن خلال اوصافه الجغرافية يشعر الباحث مثلما يذكر أ.د. الدويب في مقدمته ان سترابون كانت امامه خريطة او عدة خرائط عندما يصف المدن و الاقاليم لا سيما في مصر التي مكث بها اربع سنوات . و قد تتبع سترابون في وصف جغرافية مصر التاريخية (الاقاليم و المدن) نهجا مخالفا لوصفه لنهر النيل الذي وصفه من الجنوب الى الشمال ، بينما وصف المدن من الشمال الى الجنوب حتى بداية ما يعرف باسم اثيوبيا حيث سكان الكهوف (فقرات 27- 52 ص ص. 56-81).ووصف المواقع المطلة على البحر المتوسط من الغرب الى الشرق (فقرات 14-20 ص ص.43-52) .
ومما سبق فانه يرجع الفضل الى سترابون انه مكن الباحثين المحدثين من رسم خريطة مصر الآثرية بمدنها و التسميات التي كانت تعرف به تلك المدن ، وهذا دليل للاثريين لمعرفة مواقع المدن التي وصفها سترابون و لا تزال خارج نطاق البحث الاثري ، ان ما ذكر اعلاه ما كان ليتيسر لولا هذه الترجمة الحصيفة للفصل الاول من الكتاب السابع عشر (الفقرات 1-54 ص ص.19-84 ).
اما القسم الثاني من الكتاب السابع عشر فقد خصه سترابون لوصف بلاد الاثيوبيين وهنا يقصد السودان حاليا ، وجاء وصفه مقتضبا شمل ثلاث فقرات من اصل خمس فقرات التي يتكون منها هذا القسم من الكتاب ( ص ص.85-91) ، وقد لاحظ ان ارتفاع درجة حرارة تلك المنطقة قد انعكست على حياة الناس ومن ثم بساطة معيشتهم ، التي وصفها ووصف بعض مدنهم اشهرها مروي ، ويتتبع سترابون مسار نهر النيل في تلك المنطقة وتفرعه الى فرعين ، ويلاحظ انه هنا كان مقلدا لهيرودوتوس في اهتمامه بسكان تلك المنطقة وبيئتهم وعاداتهم وديانتهم . وبعد ذلك عاد سترابون ليعلق على بعض الاشياء المميزة في بيئة مصر من نباتات و اسماك النيل و بعض العادات التي تخص الاكل ، وعادة ختان الجنسين وغيرها (ص ص.88-91).
اما القسم الثالث من الكتاب السابع عشر فخصصه سترابون للحديث عن قارة ليبيا او الجزء المعروف من قارة افريقيا باستثناء مصر ، وجاءت ترجمته خلال الصفحات 92-123 ، وتكّون من 25 فقرة ، وقد بدأ سترابون حديثه عن ليبيا مشيرا الى ملاحظات عامة عنها من حيث انها اصغر قارة وغير مأهولة بسبب وقوع اجزاء كبيرة منها في مناطق حارة ، كما ترآى له ان شكل قارة ليبيا مثلث الشكل بسبب جهله للحدود الجنوبية للقارة ، وقبل الاسترسال في عرض محتويات هذا القسم تنبغي الاشارة الى بعض النقاط المهمة ، ، فاذا كان سترابون قد مكنته اقامته في مصر تقديم معلومات تتميز بالوفرة ـ في مجالات عدة ـ و المصدقية لانه كان شاهدا عيان عليها ، وعلى خلاف ذلك فان حديثه في القسم الثالث عن قارة ليبيا (الجزء المعروف من افريقيا عند الكتاب القدامى) جاء مقتضبا ، الكثير منه منقول عن كتاب آخرين ، او سمعه من اشخاص كانوا من رواد تلك المناطق او من سكانها ، فقد ردد كثيرا كلمة يقال و يقولون و يحكى ، ويذكر فلان ، وغيرها ، وعلى الرغم من هذا فانه يبدو ان سترابون قد ابحر بجانب شاطيء شمال افريقيا ، والدليل على ذلك انه ذكر عندما وصف ميناء كيريني (ابوللونيا) ،ـ وليس كيريني كما جاء في الترجمة ـ انها مدينة واقعة في سهل على شكل شبه منحرف كما شاهدتها من البحر (نهاية الفقرة 20 ص.117)، وهذا يدعو للقول ان سترابون لم يزر الساحل الليبي ومدنه لكنه ابحر بمحاذاته ، وربما كان ابحاره من الغرب الى الشرق لانه وصف ذلك الساحل من الغرب الى الشرق على خلاف وصف هيرودوتوس ، وتحديدا فقد وصف المنطقة الممتدة من اعمدة هيراكليوس (عند مضيق جبل طارق) الى مدينة كاتاباثموس (السلوم) ،وقد اهتم بتقديم وصف لذلك الساحل وتعرجاته ومدنه وموانيه و خلجانه ، والمسافات التي تفصل بعض المواقع المهمة عن الأخرى ، كما لم ينس سترابون ان يضع معلوماته الجغرافية في اطار تاريخي كلما دعت الضرورة لذلك مثل فذلكته عن تاريخ قرطاج ، وما ذكره من شذرات عن تاريخ كيريني .
وما يهم ليبيا بحدودها الجغرافية الحالية الفقرات 18-23 ص ص. 112-120، واول مدينة ذكرها كانت لبدة الكبرى او نيابوليس ، أي انه اهمل صبراتة واويا و هذا طبيعي لان المدينتين لم يكن لهما شأن في تلك الفترة ، يلي لبدة منطقة خالية من المواني حتى رأس كيفالي (رأس الزروق) ، وذكر ان الليبو فينقيين يسكنون الى الجنوب في المنطقة الممتدة من رأس كيفالي الى قرطاجة ، ثم تحدث عن موطن بقية القبائل الليبية مثل الغايتولي و الجرامنت ،و اهتم بالحديث عن حياة بعض القبائل البدوية التي لم يذكر اسماءها ونقل معلوماته من بعض سابقيه من الكتاب (الفقرة 19 ص.113). ثم اهتم بخليج سرت فذكر ابعاده وصعوبة الابحار فيه ووقوعه ما بين رأس كيفالي في الغرب و رأس بوريوم (راس تايونيس) في الشرق ، ثم واصل مسيرته في وصف المدن الواقعة على حليج سرت بدءا من كيفالي التي يليها بحيرة توافق سبخة تاورغاء ثم موقع ميناء يدعى آسبيس (بويرات الحسون) ، ثم برج ايوفرانتاس (الشويشة 40 كم شرق سرت الحديثة) الذي يمثل الحد بين الاراضي التابعة لقرطاجة والأخرى التابعة لكيريني ، يليها خاراكس (سلطان او سرت القديمة) ثم اضرحة الاخوين فليني (الرأس العالي) يليه اتومالاكوس (بوشعيفة قرب العقيلة) تليه منطقة بها موانيء لم يذكر أسماءها حتى الوصول الى بوريون النقطة التي ينتهي عندها خليج سرت شرقا ، و على مسافة قريبة منها شرقا يوجد لسان بحري يسمى بسيدوبيناس مقامة عليه مدينة بيرينيكي (بنغازي عند سيدي خريبيش ) الواقعة قرب بحيرة تريتونياس (ابودزيرة) التي يوجد بها جزيرة عليها معبد لافروديت، ، وهناك ميناء يوسبريدس الذي يصب فيه نهر الليثون ، ويستمر سترابون يعدد اسماء المدن والمواقع المطلة على البحر ، منها تاوخيرة او ارسنوي (توكرة ـ العقورية) ، ثم بطوليمايس التي كانت تسمى برقة او بالاحرى ميناء برقة ، يليها رأس فيكوس وقرية فيكوس (رأس عامر و الحمامة )، يليها ميناء ابوللونيا (الفقرة 20 ص ص.114-117).
و خصص الفقرة 21 ص ص.117-118 للحديث عن مدينة كيريني واهميتها وملخص تاريخي عنها ، وذكر ان كيرينايكي في عصره كانت تشكل ولاية رومانية مع كريت . و في الفقرة التالية (رقم 22 ص ص. 118- 120) يتحدث سترابون عن السلفيون وعن سبب انقراضه ، ثم يسرد اسماء من اشتهر من سكان كيرينايكي من فلاسفة وعلماء (ص ص. 118-119) ، ثم يتابع ذكر المواقع او المدن الواقعة للشرق من ابوللونيا اهمها ناوستاثموس (رأس الهلال) ، ثم زيفيرون (رأس مداد غرب درنة) ، يليها رأس خيرونيسوس (رأس التين) ، ثم معبد هيراكليوس و باليوروس (التميمي) ، ثم ميناء مينلاوس (مرسى قابس) ، ثم اردانيس (مرسى لك) ، ثم يليها ميناء كبير لم يذكر اسمه (لعله طبرق) ، يليه ميناء بلينوس (قرب السلوم) يقع خلفه تيترابيرغيه (الابراج الاربعة) ، يليها كاتاباثموس (السلوم) حيث ينتهي اقليم كيرينايكي من الناحية الشرقية . وقد افرد الفقرة 23 ص.120 للتعليق بشكل مختصر عن الليبيين الذين يسكنون وراء خليج سرت و كيرينايكي منهم الناسامونيس و البسولي ، و الغايتولي ، يليهم جنوبا الجرامنت ، وفي اقصى الشرق جنوب كيرينايكي توجد قبيلة المارماريداي ، ثم يتحدث انه من اوتومالاكوس (بو سقيفة او بوشعيفة قرب العقيلة) مشيا على الاقدام مسيرة اربعة ايام توجد اوجلة ، ثم يتحدث عن طبيعة الاراضي التي تسكن بها القبائل الليبية ، ويختم سترابون هذه الفقرة بصعوبة تحديد حدود ليبيا جنوبا بسبب الصحاري المنتشرة هناك .
و لقد انهى سترابون كتابه السابع عشر و كتابه الجغرافيا بالفقرتين 24- 25 (ص ص. 121-123) ، اللتين خصصهما للحديث عن الرومان والاقاليم والاماكن التي يسيطرون عليها من قارات العالم القديم ، وفي الفقرة 25 ذكر تقسيم الرومان للاراضي التابعة لهم ، حيث فصل في التقسيم الذي قام به قيصر العظيم (اغسطس) حيث قسمها الى ولايات تابعة له ، وولايات تابعة للشعب . وان اعتماد سترابون تقسيم الولايات الذي استحدثه اغسطس يوحي ان ستربون قد انهى كتابه الجغرافيا قبيل نهاية القرن الاول ق.م.وليس في نهاية حياته .
هذا قليل من كثير وغيض من فيض مما يوجد في هذا الكتاب الذي اصبح متيسرا للقراء العرب بعد ترجمته الحصيفة من قبل أ.د. محمد الدويب ، وما تقدم يمثل عرضا تشويقيا لا يغني عن الرجوع لتلك الفقرات او الصفحات بما تحمله من غزارة معلومات يضيق الباب عن تقديرها حق قدرها الا بعد الاطلاع عليها و النهل منها ، وهذه فذلكة للكتاب السابع عشر من جغرافية سترابون الذي صدر في حلة عربية .

حول ترجمة مصادر تاريخ ليبيا القديم د. الدويب 1



عرض لترجمة الكتاب الرابع من تاريخ هيرودوتوس

انضم الى ارفف المكتبة العربية بصورة عامة والمكتبة الليبية بصفة خاصة كتاب جديد تمثل في ترجمة دقيقة للكتاب الرابع من تاريخ هيرودوتوس (هيرودوت) تصدى لها استاذ اللغات القديمة بقسم الاثار جامعة قاريونس أ.د. محمد المبروك الذويب ، وقد صدر الكتاب مؤخرا ضمن منشورات جامعة قاريونس في طبعة انيقة ضمن سلسلة عنونت باسم ( من مصادر التاريخ القديم ) هذه السلسلة التي يمثل هذا الكتاب الجزء الاول منها ، وقد عنون هذا الاصدار باسم الكتاب الرابع من تاريخ هيرودوتوس ، الكتاب السكيثي و الكتاب الليبي ، وقد صدرت ترجمة الكتاب في مائة وسبع وخمسين صفحة ، خصص المترجم الصفحات الثماني والعشرين الاولى للتعريف بالكاتب وكتابه وهذه الصفحات جديرة بالقراءة لانها تعد بحث و استقصاء لحياة هيرودوتوس وتقييم شامل لعمله المسمى التواريخ .
والكاتب غني عن التعريف لدى المتخصصين فهو هيرودوتوس الملقب منذ عهد خطيب الرومان شيشرون بأبي التاريخ يعد من اقدم المؤرخين الاغريق وواضع اسس كتابة التاريخ و سرد الاحداث التاريخية ، و قد ولد هذا المؤرخ في مدينة هاليكارناسوس باسيا الصغرى (تركيا حاليا) وعاش خلال القرن الخامس ق.م. ، ويعد من اوائل المؤرخين الاغريق الذين وصل عملهم كاملا الى الباحثين المحدثين ، وقد اطلق هيرودوتوس على عمله او كتابه التواريخ الذي يتألف من تسع كتب حمل كل كتاب اسم مؤلهة من مؤلهات الفنون التسع وفقا للتصنيف الذي اعتمد للكتاب ـ بعد قرنين من تأليفه ـ في مكتبة الاسكندرية ، ويرصد هيرودوتوس في تواريخه تاريخ الصراع بين الفرس و الاغريق (بين الشرق و الغرب) ، ومن خلال تتبعه لهذا الصراع لم يغفل صغائر وعجائب البلدان التي تحدث عنها فعمله موسوعي لم يشمل الاحداث التاريخية بل تعدى الى تقديم الكثير من الملاحظات الجغرافية و البيئية وعادات الشعوب و تقاليدها واخبارهم المتوارثة عن اجدادهم ، وطقوسهم الدينية ، كما وصف بعض معالم المدن التي زارها ، وبهذا فعمله يعد من اهم مصادر التاريخ القديم لاسيما انه يروي احداثا كان شاهدا عيانا عنها او قريبة منه زمنيا ، وقد كتب هيرودوتوس كتابه بالاغريقية القديمة ، وقد تُرجم كتابه الى الكثير من اللغات الحديثة ، ومنها العربية حيث نقلت بعض أجزائه من تلك اللغات الحديثة ، وصدرت في عام 2001 ترجمة كاملة لهذا العمل ، الا انه ما يعاب على تلك التراجم انها لم تنقل من الاصل الاغريقي بل نقل الكتاب من خلال لغة وسيطة الانجليزية (سلسلة لويب وغيرها) ، وكثيرا ما اعترت تلك التراجم الكثير من الاخطاء بسبب عدم الترجمة من الكتاب في لغته الاصلية ، الا ان الترجمة الاخيرة خالفت هذا حيث استطاع أ.د. الذويب ان يترجم ذلك الكتاب من لغته الاصلية أي الاغريقية وينقله الى العربية على الرغم من صعوبة هذا الامر فالكتاب كتب بلغة ميتة ـ غير متداولة في الحديث ـ ذات تراكيب وقواعد لم تعد مستعملة حديثا ، مع انفراد هيرودوت احيانا ببعض التراكيب اللغوية التي تعد من ابتكاراته ، في ظل هذا وذاك استطاع المترجم ان ينجز ترجمة للكتاب حافظ فيها على لغة هيرودوتوس واسلوبه وتعبيراته ، وهذه الطريقة في الترجمة تُمكن القارئ من الاقتراب من روح الكاتب الاصلي في الكتابة و الوثوق بكلماته ومرادفاتها التي تحرى المترجم ان ينقلها بكل امانة ، وهذا يبعد المترجم عن الابداع و الابتداع بكلمات و تعابير لم يقصدها المؤلف الاصلي مما قد يؤدي الى تزوير الحقائق ـ عن غير قصد ـ الواردة في النصوص الاصلية ، وهذا ما يمكن ملاحظته في التراجم التي سبقت الاشارة اليها ، وهذا الدافع الذي حرك أ.د.الذويب الى ترجمة الكتاب عن لغته الام ، لتفادي الاخطاء في التراجم السابقة . وللتدليل على ذلك يمكن استعراض ترجمة لفقرة من هيرودوتوس ترجمت عن طريق لغة وسيطة ، و ذات الفقرة عندما ترجمها أ.د. الذويب عن الاصل الاغريقي مباشرة ، [[ هذا هو تقديم البحث التاريخي لهيرودوتوس الهاليكارناسوسي حتى لا تنسى بمرور الزمن منجزات البشر و حتى لا تنتهي شهرة الاعمال و الاعجوبات العظيمة التي حققها الاغريق و البربر [ الاجانب ] و السبب الذي حاربوا بعضهم بعض من اجله .. ]] والترجمة الاخرى لذات الفقرة نقلت عن لغة وسيطة وترجمت على النحو الاتي [[ الذي تعلمه هيرودوت عن طريق البحث تجده هنا ماثلا بين يديك وذلك حتى لا تنطمس ذكرى الماضي في اذهان الرجال على مر الايام وحتى لاتفتقر تلك الاعمال العظيمة الرائعة التي اضطلع بها اليونانيون و الاجانب (أي البرابرة) وخاصة اسباب نشوب الحرب بينهم الى من يظهره للملأ ]] . وهذا المثال يوضح الفرق في الترجمة عن الاصل الاغريقي و الترجمة من لغة وسيطة ، وكلما ابتعدت الترجمة عن النقل من الاصل كلما ظهرت معانٍ وعبارات لم ترد في الاصل .
ومما سبق فانه يتأكد اهمية صدور الترجمة الجديدة للكتاب الرابع من تاريخ هيرودوتوس معربة عن الاصل الاغريقي ، و هذه الترجمة تتيح للطلاب و الدارسين والمهتمين بالتاريخ القديم والاثار من النهل من هذا المصدر العتيد الذي يعد احد الكتب التسع التي يتكون منها كتاب التواريخ الذي خطه ابو التاريخ بأنامله من خلال رحلاته واسفاره و بحثه وجمعه لمعلومات من المناطق التي ارتادها او التقط اخبارا عنها ، وقد طبق هيرودوتوس ذلك المنهج في كتابه الرابع الذي خص اغلبه بحرب الملك الفارسي داريوس ضد السكيثيين ، ووجد ابو التاريخ الفرصة مناسبة للحديث عن تلك القبائل من حيث عاداتهم وحياتهم وقدم معلومات غاية في الدقة عن تلك الشعوب او القبائل التي استوطنت وسط اسيا و جنوب روسيا ، ولهذا سميت تلك الفقرات (1-144) من حديثه الشائق والغريب احيانا بالكتاب السكيثي (ص ص.29-101) .وقد استعرض في فقراته علاقة السكثيين بالفرس منذ ان زحف الملك داريوس على الاراضي التي احتلوها من ارض ميديا (الفقرة 1) ووجد هيرودوتوس الفرصة سانحة لكي يتتبع احوال السكيثيين بعد عودتهم لارضهم ويتحدث تفصيلا عن احوالهم السياسية وعن اصلهم الذي ينحدرون منه وفقا لروايتهم او رواية الاغريق المجاورين لهم (الفقرات6-11) ، كما وجد الفرصة مناسبة ليوسع نطاق روايته فتحدث عن الشعوب التي تسكن اقسام اسيا للغرب من بلاد فارس و حول البحر الاسود (الفقرات 17-40) ولم ينسَ التطرق الى اراضيهم وما تحويه من انهار(الفقرات 46 -58) اضافة الى التطرق الى عباداتهم وطقوسهم (الفقرات 59-63) وعاداتهم اثناء الحرب وطريقة القسم لديهم وطريقة دفن ملوكهم ونفورهم من تقليد الاجانب (الفقرات 64-78) ،وبعد هذا يعود هيرودوتوس لاستكمال ما بدأه في الفقرة الاولى من رواية الاحداث مفصلة عن غزو الملك الفارسي داريوس على السكيثيين منذ خروجه من بلاده حتى الوصول الى السكيثيين و المعارك التي خاضها معهم (الفقرات 83-144) ، وفي اثناء روايته يأتي ببعض اللطائف عن السكثيين والقبائل المجاورة لهم وكيف تعاملوا مع الفرس المغيرين عليهم ، ومما تقدم فان الكتاب السكيثي يعد مصدرا مهما عن السكيثيين ومعلوماته رائدة عن تلك المناطق ارضا و شعوبا وعاداتٍ وتقاليدٍ وطقوسا وتاريخا اضافة الى بعض الروايات عن بعض المؤلهين الاغريق وعلاقتهم بتلك الاراضي و الشعوب التي سكنت أسيا و حول البحر الاسود .
و للكتاب الرابع اهمية خاصة لليبيين لان الربع الاخير منه افرده ابوالتاريخ للحديث عن ليبيا لهذا سمي بالكتاب الليبي (الفقرات 145-205 ص ص. 101-137) ، ومما تجدر الاشارة اليه ان هذا الجزء من الكتاب الرابع قد ترجمه الى العربية بعض الباحثين مثل د. خشيم في نصوصه الليبية ، و د.البرغوثي في التاريخ الليبي القديم ، و د. الاثرم في مجلة البحوث التاريخية ، وغالبية تلك التراجم نقلت عن لغة وسيطة ولم تتم الترجمة عن الاصل الاغريقي مما ادى الى ظهور بعض الاخطاء فيها ، وبهذا يتميز عمل أ.د. الذويب بانه اعتمد الاصل الاغريقي في ترجمته ، و انه ترجم الكتاب الرابع بأكمله .

وبالعودة الى الحديث عن فقرات الكتاب الليبي تفصيلا فان هيرودوتوس هنا ينفرد بايراد معلومات واخبارا لم تكن متاحة عن ليبيا و سكانها من قبل ، مما جعل كتابه المصدر الام عن التاريخ الليبي وتاريخ الليبيين ، وعلى الرغم من ان هيرودوتوس قد اورد بعض الاخبار عن ليبيا في الكتاب الثاني من تاريخه (الفقرات 32-34 ، 50، 77 ، 181 وغيرها ) الا انه يعود هنا ليقدم مزيدا من المعلومات عنها وقد بدأ حديثه عنها في الكتاب الرابع في الفقرتين 42-44 (ص ص.50-53) محددا الاطار الجغرافي لكلمة ليبيا التي كانت عنده القارة الثالثة في العالم القديم الى جانب اوروبة واسيا ، وفي الفقرة 45 (ص ص.53-54) حول اصل تسمية ليبيا ، ثم بدأ من الفقرة 145 وحتى نهاية كتابه الرابع في تفصيل الحديث عن ليبيا و الليبيين ، الذي استهله بمعلومات عن رواية مجيء الاغريق واستيطانهم بالجزء الشرقي من ليبيا وتأسيسهم لمدينة كيريني (شحات) (الفقرات 150-158) ، ووفقا لمنهج هيرودوتوس وروايته للاحداث فقد تتبع تاريخ تأسيس الاسبرطيين لثيرا والسلالة التي حكمتها (الفقرات145-149) حتى ذهابهم لاستنبأ وحي دلفي الذي امرهم عن طريق البيثية بتأسيس مستوطنة لهم في ليبيا (الفقرة 150) والاحداث التاريخية التي وقعت اثناء ما يعرف بالعهد الباتي أي خلال حكم اسرة باتوس(الفقرات 159-165) والغزو الفارسي للاقليم (166-167 ، 200-205) ، تلك المعلومات التي انفرد هيرودوت ايضا بذكرها في كتابه الرابع ، ومازالت الى الان محل ثقة من المؤرخين وكثيرا ما ايدتها الادلة الاثرية والنقوش التي عثر عليها في الاقليم .
واهتم هيرودوتوس اهتماما ملحوظا بالليبيين او القبائل الليبية التي كانت تقطن ليبيا سواء تلك التي سكنت الساحل الليبي وظهيره من الشرق الى الغرب أي البدو الرعاة المجاورون للبحر وفقا لوصفه (الفقرات 168-180) ام اولئك الليبيون الذين سكنوا الدواخل (الواحات) (الفقرات 181- 185) وقد كان لهيرودوتوس الريادة في الحديث عن تلك القبائل من خلال التعريف بالاسماء التي عرفوا بها ومواطن سكناهم و احوالهم السياسية والاقتصادية (الفقرة 196 مثلا) واوضاعهم الاجتماعية (الفقرة 189) والتطرق لبعض عاداتهم الصحية والعلاجية (الفقرة 187) ومعبوداتهم ومعتقداتهم (الفقرة 188 ، 190)، وبمعنى آخر فقد قدم هيرودوتوس دراسة إثنولوجية للقبائل الليبية شملت جوانب حياتهم المختلفة ، ولم يهمل البيئة التي عاشوا فيها فتطرق لخصوبة ارضهم (الفقرة 198-199) وبعض الحيوانات (الفقرة 191-192) والنباتات التي تحيا وتنمو على الاراضي الليبية ، ومن هنا فالكتاب له قيمة علمية جد مهمة ومثيرة سواء من حيث المعلومات التي يقدمها، ام من حيث ترجمته الدقيقة ام من حيث هوامشه التي ازدان بها الكتاب ام من حيث فهرس اعلامه ، اذاً فلا مناص للمؤرخين والدارسين لتاريخ ليبيا وحضارتها من الرجوع اليه والنهل من معلوماته ، وقد كان ديدن الكثير منهم لاسيما العرب الرجوع الى هذا المصدر في لغات اوروبية حديثة نقلت عن الاصل الاغريقي ، او تراجم عربية منقولة عنها ، وهذا الامر محفوف بالمخاطر وفقا لما ذكر اعلاه ، اما بعد صدور ترجمة د. الذويب لكتاب هيرودوت في ثوب جديد فهي تغني عن الرجوع الى هذا المصدر في لغته الاغريقية ، ومدعاة للاطمئنان لترجمته التي لوحظ انه تحرى فيها غاية الدقة ، ولم يزود الكتاب بملحق لفقرات الاصل الاغريقي لكتاب هيرودوتوس الرابع على الرغم من انه توجد اشارة الى ذلك الملحق في محتويات الكتاب لكنه لم يوجد في الواقع لعله بسبب صعوبة طباعة النص الاغريقي ، و حتى تعم الفائدة اكثر يمكن استكمال ذلك في طبعة ثانية للكتاب حتى يتسنى للقارئ او الباحث من الرجوع الى النص الاغريقي و ترجمته في وقت واحد ، كما ينتظر المهتمون بالتاريخ القديم مزيدا من الاصدارات المترجمة عن الاصل الاغريقي التي تغني المكتبة العربية بمصادر التاريخ القديم و تيسر للطلاب و الباحثين الاطلاع عليها و الاستفادة منها بدلا من الرجوع الى تراجم اجنبية عن الكتب الاصلية تكثر بها الاخطاء والتأويلات في الترجمة بعيدة كل البعد عن الاصل التي نقلت عنه .

حول سلسلة ترجمة مصادر تاريخ ليبيا القديم د. محمد الدويب 3



مع ترجمة الكتاب الرابع من جغرافية بطليموس

ها هي منشورات جامعة قاريونس في اصدار جديد من اصداراتها المكينة ، وها هو أ.د. محمد المبروك الدويب يتحف المكتبة العربية بمصدر جديد من مصادر التاريخ القديم ، بعد ذرتيه الكتاب الرابع لهيرودوتوس و الكتاب السابع عشر لسترابون ، و ها هي ثالثة الأثافي ، هذه هي ترجمة الكتاب الرابع من جغرافية بطوليميوس (بطليموس) الذي ترجمه و نقله عن الاغريقية بكل امانة و اقتدار ا.د. الدويب ، ويعد كتاب جغرافية بطليموس او الدليل الجغرافي من اهم الكتب الكلاسيكية التي اثرت في تاريخ الفكر الجغرافي و في رسم الخرائط ، فالخرائط التي اعدها بطليموس صورت العالم المعمور بمواقعه من مدن وقرى و جبال و انهار وشعوب و قبائل تستوطن تلك الامكنة ما بين 127-148 م وقد حدد تلك المواقع بنظام جديد ابتكره اعتمد على خطوط الطول و العرض هذا النظام الذي مازال معمولا به حديثا بعد ان طور ، اذا فان بطليموس رائد تحديد المواقع جغرافيا وفقا لخطوط الطول و العرض ، وقد عزز خرائطه التي بقى منها 13 خريطة بالدليل الجغرافي المكون من 8 كتب بحيث يسترشد به لمعرفة اسم الموقع و موقعه وفقا لخطوط الطول والعرض ، وقد استعرض في كتبه تلك بجانب خرائطه التوضيحية الاقاليم الجغرافية القديمة بحيث كان يُبين حدود كل اقليم ويشير الى اقسامه ثم يفصل ما يحويه من مدن وقرى وجبال و انهار ومظاهر مختلفة برا وبحرا و لم ينس ان يذكر السكان القاطنين في تلك المدن والقرى حيث يرد أسماءهم والقبائل التي ينتمون اليها ، ومن هنا فهذا الكتاب مفيد لمعرفة العالم القديم في صورة بانورامية دقيقة في النصف الاول من القرن الثاني للميلاد قدمها كلاوديوس بطليموس الذي عاش في مصر و استفاد من مكتبتها الشهيرة و ما تحويه من مصادر كلاسيكية كانت زاده في استعراض العالم القديم بمواقعه و مظاهره الطبيعية التي ازدان به مؤلفه الدليل الجغرافي بخرائطه التوضيحية ، وكتابه يمكن ان يصنف حديثا بانه اطلس جغرافي ومن ثم فهو اقدم الاطالس قاطبة .
وقد خصص بطليموس كتابه الرابع لوصف ليبيا ومصر ويقصد بليبيا قديما الجزء المعروف عند الاغريق و الرومان من قارة افريقيا باستثناء مصر ، وقد عرض في كتابه الرابع الاقاليم او المقاطعات التي تتكون منها هذه المنطقة و قد بدأ وصفه من الغرب الى الشرق من اقليم موريتانيا الطنجية ثم موريتانيا القيصرية ثم نوميديا (افريقيا) ثم كيرينايكي ومصر السفلى و العليا ، ثم يتجه الى الدواخل الليبية و اثيوبيا اسفل مصر (السودان) و اثيوبيا الداخلية ، وقد بلغ عدد تلك الاقاليم 12 اقليما صورها في اربع خرائط . وقد جاءت ترجمة أد. الدويب لهذا الجزء من كتاب الدليل الجغرافي في الكتيب الذي اصدرته منشورات جامعة قاريونس في طبعته الاولى عام 2004 على الرغم من تداوله بين القراء في الشهر الثالث من عام 2005 ، وقد صدر هذا الكتيب في طبعة قشيبة بـ 113 صفحة ( 23.7 × 17 سم ) عدد صفحات هذا الكتاب بما فيها مقدمة وتمهيد (ص ص. 9-20 ) تعد قراءتهما ضرورية لانها مدخل جيد لهذه الترجمة ليدرك القاريء اهمية هذا العمل و اهمية ترجمته الى العربية ، ومما يجدر ذكره ان ا.د. محمد الدويب قد حذا حذو اجداده العرب الاوائل الذين عنوا باعمال بطليموس و ترجموا جزءا كبيرا منها الى العربية ، وقد ترجمت جغرافية بطليموس الى العربية في القرن الثالث الهجري في عهد المأمون نقلا من الاغريقية بصورة مباشرة او من الترجمة السريانية لهذا الكتاب ، وقد ترجم بشكل كامل و مُجزء ، وقد وصلت جزء من هذه الترجمة تحت اسم جغرافية بطليموس في تفصيل الاقاليم (صورة الارض المعمورة المعلومة ) ، وقد لخص ذلك الكتاب بواسطة محمد بن موسى الخوارزمي في كتابه " رسم الارض " الذي نقل حرفيا الخرائط التي اعدها بطليموس ونشرها مترجمة في كتابه المشار اليه . ومما تقدم فان ترجمة هذا الجزء من كتاب دليل جغرافية بطليموس من الاغريقية الى العربية بواسطة أ.د. الدويب تعد الاولى في اللغة العربية حديثا ، ووريثة لترجمة مماثلة ترجع الى القرن الثالث الهجري ، وقد فقدت التراجم القديمة اهميتها بسبب ما حواه كتاب بطليموس من ذكر للمواقع القديمة المندثرة و المجهولة ومن ثم فهي أي المواقع غير ذات فائدة او جدوى للمسلمين فاهملوا ما ورد بالكتاب من اسماء و ركزوا على ما ذكره بطليموس في مقدمة كتابه و الخرائط التي ذيّل بها الكتاب . اما ترجمة الدويب فهي جم مفيدة لدارسي التاريخ القديم و الآثار على وجه الخصوص بعد ان اصبح الرجوع الى المصادر الجغرافية القديمة لا مناص منه ، بسبب ما توفره تلك المصادر من معلومات مفيدة عن المواقع الاثرية و التاريخية من حيث موقعها و الاسم الذي كانت تعرف به آنذاك ، ومن خلال عمل بطليموس امكن للدارسين التعرف على الكثير من المواقع التي كانت مندثرة و لم يكن يُعرف الا اسماؤها وفقا لما جاء في المصادر الجغرافية القديمة مثل استرابون و بطليموس ، وامكن بفضل تلك المعلومات من الوصول الى معرفة تلك المواقع ومعرفة اسمائها القديم ، ومن ثم لم تعد الكثير من الاطلال والمواقع الاثرية مجهولة بدون اسم و لا اضاءات تاريخية من خلال الاشارات التي ترد عنها في المصادر الكلاسيكية والتي تساعد في معرفة تاريخ الموقع و تطوره ، ويعد كتاب بطليموس (الدليل الجغرافي) احد المصادر المهمة التي تُعين الباحث الاثري بسبب دقته في تحديد المواقع بخطوط الطول و العرض (وان كانت غير دقيقة مقارنة بخطوط الطول و العرض الحالية) وتحديد موقعها على الخرائط القديمة التي برع بطليموس في تنفيذها ، ومما تقدم فان ترجمة هذا الكتاب الى العربية مفيدة جدا فعن طريقها يمكن معرفة التسميات القديمة كما كتبها بطليموس بالاغريقية و رسمها بالعربي وموقعها وفقا لخطوط الطول و العرض ، اضافة الى التعليقات و الهوامش التي اثرت هذا العمل .
ويهتم الفصل الاول من الدليل الجغرافي بالحديث عن اقليم موريتانيا الطنجية (ص ص.23-28) تلك المواقع التي ذكرت في خريطته الاولى ، وقد قسم الى ثمان فقرات اعتنت بابراز المواقع الساحلية والداخلية في اقليم او ولاية موريتانيا الطنجية الممتدة من مضيق هيراكليس (جبل طارق حاليا) الى جبال اطلس الكبير ، ولم يكتفِ بذكر مواقع المدن والقرى بل اسماء الجبال والجزر والقبائل المحلية التي تسكن هناك فذكر اسماءهم ومواطن سكناهم . اما الفصل الثاني (ص ص.29-37) فتعرض لولاية موريتانيا القيصرية الواقعة شرق موريتانيا الطنجية وقد عنى بايراد المواقع الموجودة في هذه الولاية من مدن وقرى وجبال وموطن السكان المحليين واسمائهم و ذلك من خلال فقرات هذا الفصل البالغ ثمانية ، هذه المواقع التي تعد تفريغا لما ورد في جزء من خريطته الاولى (خريطة ليبيا الاولى ). اما الفصل الثالث (ص ص.39-56) فقد خصصه لمسح مواقع ولاية نوميديا و افريقيا الواقعتين غرب موريتانيا القيصرية ، وتعد ولاية نوميديا اصغر الولايات اما ولاية افريقيا فتعد اكبرها حيث تشغل جزءا كبيرا من تونس الحالية وتمتد حتى مدخل خليج سرت الكبير ، ويعد هذا الفصل من اكبر فصول الكتاب فقد وردت به الكثير من المواقع الساحلية و الداخلية واسماء الكثير من القبائل ومواطنها، واسماء البحيرات و الجبال والجزر ، واشار الى المواقع التي اسستها الفرقة الاغسطية الثالثة واتخذتها موقعا حصينا لها ، وقد وردت تلك الاسماء و المواقع في خريطته الثانية (خريطة ليبيا الثانية) و ليس غريبا ان يعد هذا الفصل من اكبر فصول الكتاب بسبب الكثافة السكانية وشغل الاراضي كلما اتُجه شرقا فولاية موريتانية (الطنجية والقيصرية) تعد اقل سكانا واقل مواقع مقارنة بولاية افريقيا لاسباب سياسية اذ ركز الرومان على ولاية افريقيا الآهلة بالسكان اكثر من موريتانيا الاقل سكانا و استيطانا من قبل الرومان .
وعند محاولة التعرف على اهمية هذا العمل بالنسبة لليبيا فتجدر الاشارة الى ان الجزء الخاص بليبيا بالمفهوم السياسي الحالي قد ورد في الكتاب في الفقرات 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 11 من الفصل الثالث (ص ص.42-48 ، 54-55) بالنسبة للجزء الواقع في ولاية افريقية (الجزء الغربي من ليبيا حاليا) اما اقليم كيرينايكي (قورينائية) فقد افرد له بطليموس الفصل الرابع بفقراته الثمانية ، وقد حدد مواقعه على خريطة ليبيا الثالثة وقد تطرق الى وصفها من الغرب الى الشرق بدءً من قرية فيليني ثم اوتومالاكس (بوشعيفة قرب العقيلة) يليها سبعة مواقع تمثلت في روؤس بحرية وموانٍ وابراج تنتهي الى منطقة البينتابوليس (المدن الخمس) التي تبدأ ببيرينيكي (بنغازي) و تنتهي ساحليا بمدينة دارنيس (درنة) مرورا بمدن ارسينوي (توكرة) بتوليمايس (طلميثة) و ابوللونيا (سوسة) ، كما اشار الى بعض المواقع الاخرى مثل اوسيجدا (قصر ديزا او الحنية ) و فيكوس (رأس عامر او الحمامة ) و ناوستاثموس (رأس الهلال) و ايرثرون(لاثرون) و خيرسيس (كرسة) و رأس زيفيرون (رأس مداد غرب درنة). كما تعرض للقبائل القاطنة في في جنوب كيرينايكي (الفقرة 6) ، اما المدن والمواقع الداخلية فقد تطرق اليها في الفقرة السابعة فذكر 22 موقعا لعل اهمها مدينة كيريني و برقة و بلغرا (البيضاء) و الكثير من القرى الاخرى مثل ارتاميس (مسة) ، خيريكلا (زاوية اسقفة) ، وغيرها . اما الجزء الاخر من ليبيا والمسمى اقليم مارماريكي و الممتد من شرق درنة الى ميناء بيتراس الكبرى (ميناء البردية ) عند بطليموس ، اما كاتاباثموس (السلوم) التي وضعها بطليموس في اقليم ليبيا الساحلية فهي تعد الحد الشرقي لاقليم كيرينايكي قديما ، وقد اشار بطليموس الى 11 موقعا ساحليا في اقليم مارماريكي من اهمها خيرونسيوس (رأس التين) ، ميناء باتراخوس (البردية)، ميناء انتيبيرجوس (طبرق) و 16 موقعا داخليا (الفقرة 13 ) اضافة الى القبائل التي كانت تقطن في مارماريكا هذا ما جاء في الفصل الخامس عن ليبيا ( ص ص. 63-64 ،70-73 ) . اما بقية هذا الفصل فقد خصه بطليموس بالحديث عن اقليم ليبيا الساحلية الواقع اغلبه في جمهورية مصر ، اضافة الى اقاليم ومواقع اخرى مثل اقليم مريوط والعديد من الاقاليم الاخرى الغنية بالمواقع والمدن المأهولة بالسكان (ص ص. 66-69 و 75-86) . وقد افرد بطليموس الفصل السادس (ص ص. 87-98) للحديث عن اجزاء قارة ليبيا الداخلية الواقعة الى الجنوب من ولايات موريتانيا الطنجية والقيصرية و افريقيا و كيرينايكي ، وقد اهتم بطليموس بايراد القبائل المحلية القاطنة في تلك الامكنة (الفقرتين 5-6) من بينها قبائل ليبية مثل الجرامنتس ، وقد اشار بطليموس في خارطته الليبية الرابعة وتوضيحاتها في الفصل السادس الى مجموعة من الانهار و الجبال الواقعة في ليبيا الداخلية ، من بينها مثلا لا حصرا الجبل الذي ينبع منه نهر كينوبس (وادي كعام) . كما حوت الخارطة الليبية الرابعة موقع اثيوبيا جنوب مصر وليبيا الجنوبية (السودان حاليا على وجه التقريب) ، وقد استعرض بطليموس مواقع تلك المنطقة في الفصل السابع (ص ص.99-110) باقاليمها المختلفة متتبعا نهر النيل جنوبا والمواقع المطلة على الخليج العربي قديما (البحر الاحمر) . كما حوت ذات الخارطة الاجزاء الجنوبية من غالبية الاقاليم السابقة التي تعرض لها بطليموس ، وقد اطلق على هذه المنطقة اسم اثيوبيا الداخلية التي يقصد بها ما عرف من مجاهل قارة افريقية جنوب الصحراء .ويدرك العبد لله الصعوبات التي واجهت أ.د. الدويب لينشر خرائط بطليموس الاربعة الخاصة بليبيا او بالكتاب الرابع ، والتي كان من المفيد ان تلحق بالكتاب .
هذه جولة سريعة في الكتاب الرابع من جغرافية بطليموس الشهير التي تيسرت بفضل الترجمة الحصيفة التي تكبدها أ.د. الدويب ليفيد المتخصصين في الدراسات الكلاسيكية بصفة خاصة ، ويضيف لبنة جديدة الى المكتبة الكلاسيكية العربية ، تحية للمترجم والناشر و مزيدا من الاصدارات الجديدة الهادفة والواعدة .