الصفحات

الجمعة، 25 سبتمبر 2009

جولة في مدينة سوسة الاثرية


تقع هذه المدينة الاثرية الى الشرق من مدينة شحات الاثرية التي تبعد عنها حوالي 18 كم ، كما يمكن الوصول اليها عن طريق مدينة درنة و عبر الطريق الساحلي عبر رأس الهلال ، و هذه المدينة تتمتع بموقع سياحي جذاب من الناحية الطبيعية فهناك البحر و الجبال اضافة الى المدينة الاثرية .



اشتهرت هذه المدينة منذ نهاية القرن السابع ق.م انها ميناء لمدينة كيريني (قوريني-شحات) و سميت بهذا الاسم لانها لم تكن الا ميناء تابعا لمدينة كيريني تستغله للاتصال بالعالم الخارجي بسبب المقومات الطبيعية التي يملكها ذلك الميناء ، وقد ذكرت بهذا الاسم في الكتاب المنحول عن الجغرافي سكيلاكس في القرن الرابع ق.م.، ولقد استغل المغامر الاسبرطي ثيبرون هذا الميناء للاستيلاء على الاقليم (كيرينايكي- قورينائية) برفقة 7000 من المرتزقة الاغريق فقام باحتلاله عام 324 ق. م. و لم يستطع تحقيق اهدافه بعد سنتين من الصراع مع سكان الاقليم ومدنه ، وعندما قبض عليه في توكرة ارسل ليعدم في ميناء قوريني (سوسة) عام 322 ق.م. هذه الاحداث التي رواها المؤرخ ديودورس الصقلي تفصيلا ، وفي العصر البطلمي ازدهر هذا الميناء وتطور الى ان اصبح مدينة و لاسيما في عهد الملك ماجاس (300-250 ق.م.) وخلال هذا العصر ولد في هذه المدينة إراثوسثينيس (276-194 ق.م.)الفلكي الذي استطاع قياس محيط الارض ، وكان امينا لمكتبة الاسكندرية .



و قد انفصلت سوسة عن قوريني واصبحت مدينة مستقلة سميت باسم جديد هو ابوللونيا (نسبة للمؤله الاغريقي ابوللو) في اوائل القرن الاول ق.م حيث ذكرها نقش يرجع لعام 67 ق.م. بهذا الاسم كما ان سترابون ذكرها بذات التسمية ، ثم اصبحت في القرن الاول الميلادي احدى المدن الخمس (البينتابولس) وفقا لما يذكره بليني الاكبر، ومن ابرز الاحداث التي شهدتها هذه المدينة في العصر الروماني وصول القائد الروماني ماركوس توربو مع قواته للقضاء على الشغب الذي اثاره اليهود في الاقليم ما بين 115-117 م ، وعقب هذا يبدو ان الامبراطور هادريان قام ببعض الاصلاحات مما جعل سكان المدينة يصفونه في احد النقوش بالمؤسس ، كما انضمت سوسة الى الرابطة الهللينية (Panhellenion) التي اسسها هادريان عام 137م ، وقد تأكد استمرار سوسة في هذه الرابطة في عهد الامبراطور ماركوس اوريليوس ، ولم تزدهر هذه المدينة الا بعد ان اصبحت عاصمة للاقليم في منتصف القرن الخامس الميلادي (ما بين 431-450م) و استمرت عاصمة حتى الفتح الاسلامي عام 642 م ، وقد كانت تعرف خلال هذه الفترة باسم سوزوسا التي ربما تشير الى السيدة مريم العذراء عليها السلام ، ولكونها عاصمة الاقليم فقد صارت مقرا للحكام البيزنطيين الذين حكموا الاقليم و من بينهم دانييلوس الذي وجه اليه الامبراطور اناستاسيوس عام 501 م مرسوما لتنظيم احوال الاقليم العسكرية وجد جزء منه منقوشا على الرخام ، وكان آخر الحكام البيزنطيين المدعو ابوليانوس الذي هرب امام الزحف الاسلامي الى مدينة تاوخيرا (توكرة) عام 642 م. ومن الطبيعي ان تشهد المدينة حركة معمارية ضخمة بسبب كونها مركزا للاقليم ومقرا لحكامه لذا فقد كشفت المعاول الاثرية على عدة كنائس مزدانة بالرخام والفسيفساء يؤومها المسيحيين بالمدينة ، وهناك قصر للحاكم عرف باسم قصر الدوق ، وهناك احياء سكنية لاستقرار الاهالي و الوافدين على المدينة.



ويبدو ان المدينة لم تنتهِ بعد الفتح الاسلامي حيث استقر بها بعض المسلمين لفترة من الزمن حيث عثر على نقش عربي في صالة قرب الكنيسة الوسطى ، وعلى الرغم من هذا فانه لايعرف التاريخ التي هجرت فيه المدينة وبقائها خالية من السكان، وقد ادى هجرانها الى تدمير مبانيها بسبب تضافر العوامل الطبيعية والبشرية ادت الى اختفاء الكثير منها وصارت اطلالا عبر الزمن ، ونُسيت هذه المدينة العامرة من ذاكرة البشرية حقبة من الزمن الى ان زارها الرحالة وتعرفوا عليها واشاروا الى بعض بقاياها الاثرية ولعل اقدمهم الجراح الفرنسي جرانجيه عام 1734 ثم الطبيب الايطالي دي لا شيلا عام 1817 ، ثم الاخوان بيتشي عام 1822 وباشو عام 1824 ثم هاملتون عام 1852 وغيرهم ، وقد بدأ الايطاليون بالحفر في بعض بقاياها واهتموا باثار هذه المدينة منذ عام 1915 ، كما اهتم الفرنسي مونتي بالتنقيب بها ما بين 1953 -1956 ، اضافة الى مصلحة الاثار التي نقبت فيها برئاسة جودتشايلد ما بين 1959-1961 و بعد ذلك ، اضافة الى فريق من جامعة ميتشجان ما بين 1965-1967 تمخض عمله عن مجلد ضخم عن هذه المدينة ، واخيرا عاد الفرنسيون للتنقيب في سوسة من جديد باشراف شامو منذ 1976 ثم لاروند منذ عام 1981 ولا زالت تنقيباتهم مستمرة حتى الان.



و قد انتجت الاعمال السابقة الكشف عن الكثير من المعالم الاثرية ودراستها ، وهي تعبر عن تاريخ هذه المدينة وتطورها الحضري عبر العصور ومن اهم معالمها : اسوار المدينة و ابراجها التي بنيت في اواخر العصر الهلنيستي وتحديدا في العقود الاخيرة من القرن الثاني ق.م. و التي تمتد لمسافة 800 مترا بادئة من نهاية الاكروبولس شرقا لتنتهي ببرجين دائريين (1 ، 4) غربا و يدعمها 17 برجا مربعة الشكل (10.50 مترا) اضافة الى برج مستطيل قرب المسرح اي انها تحتوي على 20 برجا. هذه الاسوار التي تحصر داخلها جل معالم المدينة باستثناء المقابر الاغريقية والرومانية التي تقام عادة خارج الاسوار ، اهمها تلك الموجودة في الجبانة الغربية بعضها حجرات منحوتة في الصخر ، واخرى قبور فردية عثر في بعضها مؤخرا على كؤوس باناثينية كانت تمنح في اثينا للفائزين في المنافسات الرياضية التي تقام هناك ، التي قد تعكس النشاط الرياضي لسكان هذه المدينة ، كما يوجد ضريح بيزنطي يرجع للقرن السادس الميلادي ملتصقا بالسور الغربي ، كما كشف خارج الاسوار عن مبنى للمسابقات الرياضية (الاستاديوم) الذي يرجع الى القرن الثاني ق.م. يضاف الى ذلك المعبد الدوري المكرس على الارجح لافروديت والذي يرجع الى العصر الهلنيستي ، وهناك المسرح الاغريقي الروماني الذي نحتت جل مدرجاته الثلاثون في الصخر في الجزء الشرقي للمدينة خارج اسوارها ، هذا المسرح الذي بني في العصر الهلنيستي لكنه اتخذ شكله الحالي في عام 92 م حيث زيد في حجمه واجريت عليه الكثير من التعديلات. كما تجدر الاشارة الى الكنيسة التي بنيت خارج السور الجنوبي في القرن الخامس الميلادي وتعد من الكنائس الفريدة في معمارها وتخطيطها.



اما داخل اسوار المدينة فيصادف الزائر عدة معالم بارزة تمثلت في مبان دينية ومدنية تعكس الحياة العامة في تلك المدينة ، وقد تمثلت المباني الدينية في ثلاث كنائس اهمها الكنيسة الشرقية التي بنيت داخل مبنى الاجورا (الساحة العامة) في القرن الخامس ثم رممت في القرن السادس الميلادي بعد ان زينتها الارضيات الفسيفسائية واستخدم في بنائها اعمدة رخامية جلبت من المسرح الذي هجر في العصر البيزنطي ، وهي من طراز الكنائس البازيليكية ذات الاجنحة ، وهي بدورها تختلف عن الكنيستين الاخرتين التي تتجه حنية احداها ناحية الغرب بينما حنية الاخرى تتجه ناحية الشرق وهما يرجعان لعصر الامبراطور جستنيان (527-565م) وقد ازدانت ارضية الكنيستين بالفسيفساء و الرخام . وتعد كنائس سوسة اكثر كنائس الاقليم حفظا وزخرفة واستخداما للرخام.



ومن اهم المباني العامة الحمامات الرومانية المواجهة للبحر والتي بنيت على انقاض مبنى هلنيستي احتوى على حوض سباحة وساحة لممارسة التمارين الرياضية (الباليسترا) هذه العناصر التي ادخلت في مبنى الحمامات بعد اضافة حجرات الحمام البارد و الدافئ و الساخن وحجرات اخرى وقد حدث هذا ما بين 75-125 م ، واستمرت الحمامات في الاستخدام حتى دمرت في زلزال عام 365 م مما جعل ترميمها واجبا ليعاد استعمالها من جديد حتى بناء حمامات اخرى في مكان آخر في القرن السادس الميلادي ظلت مستعملة حتى القرن السابع وربما بعد ذلك .



ومن المباني السكنية والرسمية ما يسمى بقصر الدوق اي مقر حكام الاقليم الذين اتخذوا من سوسة مقرا لهم لادارة شؤون قورينائية (كيرينايكي) اي الجزء الشرقي من ليبيا ، والقصر ان جاز التعبير يتكون من 83 حجرة موزعة على ثلاثة اجنحة ، الجناح الغربي المخصص للاستقبالات والاعمال الرسمية ، والجناح الشرقي المخصص للسكن والحياة الخاصة للدوق (الحاكم العسكري) وحاشيته ، والجناح الجنوبي الذي يمثل الجناح الخدمي للقصر اذ يسكنه الخدم و الجنود الذين يسهرون على خدمة من يقطن بالقصر وحراستهم.وقد ضم هذا المبنى كنيسة صغيرة لاداء القسم القانوني عثر بداخلها على تاوبت رخامي ربما كان يحفظ رفات احد الاساقفة.وقد بني القصر في بداية القرن السادس الميلادي. وقبل ان يتم التنقيب عنه واكتشافه كان المكان يشغل مبنى ايطالي ظل فترة طويلة قبل ازالته للشروع في الكشف عن المبنى و حدث هذا ما بين 1959-1961.



، كما تتميز هذه المدينة بان بعض آثارها غارقة تحت البحر و لاسيما مينائها و مكوناته المتعددة ، ومنذ الثمانينات بدأت الحفريات الفرنسية تحت الماء للكشف عن الميناء و الاثار الغارقة حيث كشفت عن بقايا سفينة صغيرة في الحوض الشرقي للميناء كانت بطول 20 مترا ومن خلال تحليل بقايا الخشب الذي صنع منه المركب والذي كان من خشب الجوز يبدو ان المركب قد صنع محليا في ليبيا وكان يعمل ما بين موانئ الساحل الشرقي وربما اقلع حتى بلاد اليونان او بالاحرى كريت القريبة من الساحل الليبي وذلك قبل ان يغرق في ميناء سوسة في القرن الثاني ق.م. هذا الميناء الذي كان يمتد لمسافة كيلومتر و بعرض 200 مترا ويتكون من مينائين داخلي يقع في الناحية الغربية مستدير الشكل مدخله في الناحية الشمالية و يرتبط بالميناء الخارجي (الشرقي) بممر محمي ببرجين ، كما جهز الميناء بمنارة بنيت في مكان قصي من الناحية الشمالية ، اضافة الى منشآت تخص الميناء بنيت على الشاطئ .



هذه جولة سريعة بين معالم مدينة سوسة الاثرية وتاريخها القديم الذي يمكن ان يقرأ ايضا من خلال التجول بين معروضات متحفها الذي يضم معروضات تعبر عن تاريخ المدينة وحضارتها عبر التاريخ الذي لايزال في حاجة الى اكتمال حلقاتها من خلال مزيد من الدعم المادي لمواصلة الكشف عن معالم المدينة و آثارها ومن ثم معرفة المزيد عن تاريخها ودورها الحضاري في تاريخ ليبيا القديم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق