الثلاثاء، 23 فبراير 2010

من يحمي المواقع الاثرية؟

من يحمي المواقع الاثرية ؟ .. أ.خالد محمد الهدار
نشرت في صحيفة قورينا وفي الوطن الليبية

تناقلت وسائل الاعلام منذ مدة اخبارا عن تعرض رسوم ونقوش صخرية ترجع لعصور ما قبل التاريخ في منطقة ' أويص ' شمال جبال الأكاكوس الى التخريب ليلة 7/4/2009 برش طلاء اسود عليها قصد طمسها وتشويهها عمدا ، ويصادف هذا الحدث المأسوي ما يعرف باليوم العالمي للمواقع الاثرية وشهر التراث (18 ابريل من كل عام)، هذه المناسبة التي يعني احياؤها مزيدا من الاهتمام بالاثار والمواقع الاثرية ، وقد تمكنت الجهات الأمنية من القبض على المعتدي الذي اتضح انه مرشد سياحي طردته شركته السياحية فوجد ضالته في الانتقام بتشويه ذلك الموقع الاثري الذي يعد تراثا حضاريا من المحميات العالمية ليس من حق احد ان يعبث به ليس بحكم القانون فقط ولكن من ناحية الاخلاق والثقافة و الوطنية وحتى من الناحية الدينية .

ولعل ما استوقفني في هذه الحادثة ان من قام بفعلها مرشد سياحي ، اي ان هذا المرشد هو الذي كان يجب ان يقع على عاتقه حماية هذا الموقع اذ تعرض للخطر لانه من المفترض ان يكون على دراية كبيرة بقيمة الموقع الاثري من الناحية الحضارية والاثرية والثقافية والسياحية والاقتصادية ايضا ، ومن المؤكد ان ما وقع لا يشوه المرشدين السياحيين جميعهم ولكن ينطبق على حالة شاذة لاتنتمي الى اولئك المرشدين الذي اعدوا بشكل جيد للتعريف بحضارة ليبيا وتاريخها من خلال المواقع الاثرية التي يصطحبون السياح اليها .

وما وقع اضاف الى العبث الذي يحدث في بعض المواقع الاثرية جعلني اسأل من يحمي المواقع الاثرية في بلادنا ؟

في الواقع ان المعالم و المواقع الاثرية محمية بحكم القانون الليبي واقصد القانون رقم 3 الصادرعام 1994 الذي لايزال معمول به حتى الان ، حيث اهتم الفصل الثالث من القانون الاخير بحماية الاثار والمواقع الاثرية حيث اعتبرتها المادة الرابعة والخامسة من الاموال العامة و من الممتلكات الثقافية ونصت المادة التاسعة على الجهات المعنية اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الاثار في زمني السلم والحرب ، واعتبار المواقع الأثرية من الاماكن الحيوية الهامة ونظمت بقية مواد الفصل الثالث (10-34 )من هذا القانون الكثير من الاجراءات التي تخص الافراد او الجهات و التي تؤمن حماية الاثار و المواقع الاثرية ، ومن حيث العقوبات فقد نص الفصل الخامس (المواد 51 - 57) على العقوبات الرادعة لكل منتهك لاحكام هذا القانون ، وتمحورت العقوبة ما بين الحبس و الغرامة المالية ، اما الحبس فهو لا يزيد على سنة واحدة ، واقصى غرامة مالية وصلت الى 20000 دينار ، وبصورة عامة فان هذه العقوبات قد تكون غير رادعة و تحتاج الى مضاعفتها وتكون اكثر تفصيلا ودقة في شأن حماية الاثار و المواقع الآثرية .وقد حددت اللائحة التنفيذية لهذا القانون بعض التفاصيل التي من شأنها حماية المواقع الآثرية (الفصل الثالث المواد 4- 10) و الفصل الرابع المواد 11- 15 .

اذاً المواقع الاثرية محمية بحكم القانون الذي تطبقه الجهات القضائية المختلفة بالتعاون مع مصلحة الاثار التي تقع تحت مسؤوليتها المواقع الاثرية وهي الجهة التي انيط بها قانونا الاشراف على الاثار وحمايتها وصيانتها ودراستها وغيرها من الامور التي تهم هذا الشأن الثقافي والعلمي ،وذلك من خلال ادارتها المتوزعة على بعض انحاء متفرقة من ليبيا ، مع باحثيها وموظفيها الذين يكلفون بمهام تنصب في النهاية نحو الهدف الرئيسي حماية المواقع الاثرية بشكل او بآخر فبعضهم يشرفون على المواقع الاثرية حيث يستطلعونها و يسجلونها و يحدودون حدودها بالتعاون مع التخطيط العمراني والجهات ذات العلاقة ، كما يتعاونون مع البعثاث الاجنبية التي تنقب عن المعالم الاثرية و تتعهدها بالدراسة و النشر، ويسهمون في التنقيب عن الاكتشافات الاثرية التي بعضها يكون للمصادفة الدور البارز في اظهارها للوجود، كما ان حراسها على الرغم من قلتهم يحاولون قدر الامكان الاسهام في حراسة المواقع والمتاحف الاثرية ، وفي السابق كان يتمتع الكثير من العاملين بمصلحة الاثار بصفة مأمور الضبط القضائي التي تمكنهم من القبض مباشرة على اي معتدي على اي معالم اثرية بالتشويه او التدمير ، الا ان هذه الميزة قد نزعت منهم منذ سنوات مما جعل هناك صعوبة في تأدية مهامهم عندما يصادفهم اي مخربين في بعض المواقع البعيدة عند ممارسة تفتيشهم الميداني زد على ذلك ان بعضهم قد تعرض للتهديد او الاعتداء اثناء تأدية مهامه ، هذا القول يدفع الى المطالبة باعادة صفة مأمور الضبط القضائي لباحثي مصلحة الاثار ، وهذا من شأنه يكون دافع معنوي يجعلهم يؤدون وظيفتهم على اكمل وجه تحميهم صفتهم القانونية .

ومن ناحية اخرى فإن انشاء جهاز الشرطة السياحية والذي اصبح اسمه منذ سنة او يزيد جهاز الشرطة السياحية وحماية الاثار حيث توحي هذه التسمية ان هناك اهتمام كبير بحماية المعالم الاثرية ، وهذا جيد من الناحية النظرية اذا جُهز هذا الجهاز بأفراد يقومون بمهمة الحراسة بشرط ان يكونوا على دراية كبيرة بمفهوم الاثار وقيمته واهميته ، ويؤدون مهمتهم ليس بهدف الراتب الذي يتقاضونه فقط ولكن من منطلق قناعتهم بأهمية المهمة التي يؤدونها إذ أنهم يحرسون ثراث ثقافي وحضاري لهذا الوطن العزيز اذ ضاع او شوه فان هذا يعني ان صفحات قد نزعت من دفتر تاريخ ليبيا لن تعود اليه ، لكن يجب ان نعترف ان هناك صعوبة جمة في حراسة المواقع السياحية والاثرية التي تتميز بكثرتها وانتشارها على رقعة كبيرة من بلادنا بعضها مسجل وموثق وبعضها لم يتم تسجيله بعد ، ومن هنا تأتي صعوبة حمايتها فانتشارها المكاني المتسع يعد حائلا من السيطرة عليها وهذا يتطلب اعداد لاحصر لها من رجال الأمن الذين من الضروري تواجدهم في المواقع الاثرية او بالقرب منها لحراستها ، ومن الناحية الواقعية هذا لايمكن تطبيقه في جميع المواقع ، وفي هذا الصدد لكي يتم التغلب عن الانتشار المكاني للمواقع الاثرية من الضروري الاستعانة بالتقنية الحديثة وتركيب اجهزة مراقبة والآت تصوير تربط بحجرات عمليات مركزية للسيطرة على المواقع الاثرية ومراقبتها مراقبة مكينة مع وضع نقاط حراسة في اماكن استراتيجية تمكن رجال الامن الوصول الى المواقع المهددة بالخطر في اقرب وقت ، اضافة الى تجهيزهم بوسائل التنقل السريعة و اجهزة الربط مع الاقمار الصناعية واجهزة الـ ( GPS ) وغيرها من الاجهزة الحديثة التي تساعدهم في تأدية مهمتهم . ويجب ان تكون هذه التجهيزات ضمن خطة امنية واضحة المعالم تهدف الى حماية المواقع الاثرية ، واذا حدث هذا سنكون متفاؤلين لحماية المواقع الاثرية وتطويرها ايضا.

ومن ناحية اخرى هناك خطوات من الضروري ان يتم عملها لتسهل حماية المواقع ويقصد هنا عمل خارطة اثرية توضح عليها جميع المواقع الاثرية بداية من المدن والقرى القديمة وانتهاء بالمواقع الصغيرة مثل المزارع المحصنة او المباني المنتشرة هنا او هناك في مناطق نائية او توجد داخل نطاق املاك خاصة مثل المزارع او مناطق رعوية وتلك هي اكثر عرضة للاعتداء عليها وهنا ليس لغرض التشويه ولكن للبحث عما تحويه ـ وفق ما يعتقد الكثير ـ من كنوز او مقتنيات اثرية يمكن بيعها والكسب من وراء هذه العملية ، ويتطلب عمل تلك الخريطة مجهود كبير ومشروع حضاري تتبناها الدولة الليبية وتنفذه مصلحة الاثار بعد ان يقدم له الدعم المادي والفني والتقني لتنفيذ هذا العمل الذي يحتاج الى تضافر الكثير من التخصصات لإنجازه ، وهذا يحتاج الى خطة تعدها مصلحة الاثار يكون عمادها باحثي المصلحة وطواقمها الفنية بالتعاون مع اقسام الاثار في الجامعات الليبية وخريجي تلك الاقسام ، و الاستعانة بالبعثات الاجنبية للاستفادة من خبراتها من اجل انجاح هذا المشروع فنحن في الوقت الراهن احوج لتسجيل و توثيق المواقع الاثرية بدلا من التنقيب فيها ، ويكون هدف هذا المشروع استكمال الخرائط القديمة التي اعدها جودتشايلد و الاستعانة بالمشروع العالمي الذي يسجل المواقع الاثرية الرومانية في العالم و الذي يشرف على الجزء الافريقي منه الاستاذ ديفيد ماتنقللي ، بحيث يضاف الى الخارطة القديمة جميع المواقع غير المسجلة و لاسيما غير المشهورة والواقعة في اماكن بعيدة عن العمران ، ويجب ان يشمل هذا المشروع تسجيل علمي لكل تلك المواقع وتوثيقها من حيث الرسم والتصوير والوصف وعمل حماية لها (تسييجها مثلا) وتعليق ما يشير الى الموقع الاثري ورقمه وحمايته قانونا ، يصاحب تلك الاعمال عمل ارشيف ورقي ورقمي اكتروني لجميع تلك المواقع اي تكوين قاعدة بيانات لجميع المواقع الاثرية وهذا نوع من الحماية لها.

وفي الختام هل هذا يكفي لحماية المواقع الاثرية ؟ من ناحية اجرائية (نظرياً وتطبيقيا) هذه اهم الخطوات التي يجب ان تعمل لحمايتها و بعضها نفذ بالفعل ، لكن ما يجب ان يعول عليه هو المواطن الليبي الذي يجب ان يشارك في حماية المواقع الاثرية ، ولكي يتحقق هذا يجب ان يكون لدى المواطنين الوعي الاثري باهمية تلك الاثار حتى يسهموا في حمايتها ، و متى تحقق هذا الوعي فانه سيكون عامل ايجابي يجعل المواطنين لايسهموا في إلحاق اي ضرر بالمواقع الاثرية بل حمايتها ، فالاثار متوزعة هنا وهناك ، واحيانا يكتشف احد المواطنين بالمصادفة موقع اثري عند اعمال بناء منزل او اعمال في مزرعته او املاكه بصورة عامة ، فالمواطن الذي يحس بقيمة هذا الاثر عليه ان يسارع لابلاغ الجهات المسؤولة لكي تتخذ الاجراءات المناسبة ، و لايخفي الشيء الذي اكتشفه او يعبث به لغرض الاتجار به او يردم الاثر معتقدا ان مصلحة الاثار سوف تستولي على المكان الذي اكتشف به الاثر مثل مزرعته او ارضه او منزله ، و لم يحدث ان مصلحة الاثار قد استولت على اي ممتلكات شخصية وإن حدث هذا فأن هناك مبدأ التعويض الذي نص عليه القانون الليبي.

ولتحقيق الوعي الاثري يتطلب أن يصبح قطاع الاثار شأن ثقافي لا يقتصر على من يشتغلون في هذا المجال وعلى ثلة من المثقفين الذين يحسون باهمية الموروث الثقافي والحضاري لبلادهم ، بل يجب ان يحس المواطن باهمية الاثار وانها التعبير المادي عن تاريخه الحضاري وهذا لا يحدث بين يوم وليلة بل يجب ان تكون هناك خطة طموحة تهدف الى توعية الفرد بتاريخه وحضارته ، او التاريخ الحضاري لارضه التي استوطنتها شعوب مختلفة تركت اثارها وحضارتها على هذه الارض مثل الاغريق و الرومان ، فلا يجب ان ننظر الى تلك الاثار انها اثار غريبة علينا لا تمث الينا بصلة بل الامر خلاف ذلك فمهما كانت اصول من شييدها فهي في النهاية اثارا ليبية وفقا لموقعها المكاني على الارض الليبية ، و لايجب لا ننسى الدور الليبي في تلك الحضارات الذي يجب ابرازه و الاشادة به ، اذ نحن تنقصنا الثقافة التاريخية والاثرية فالكثير قد لايعرف التسلسل التاريخي لبلاده و لايعرف اي شيء عن المعالم الاثرية المنتشرة بها ، وهذا النقص هو الذي يجب ان يسد بالمناهج الدراسية التي تركز على هذه الجوانب و ابرازها و لاسيما للنشء الجديد بحيث تتطور هذه المعرفة بالارتقاء في السلم التعليمي يدعمها الدور الفعال لوسائل الاعلام المختلفة التي يمكن ان تنشط في توسيع دائرة الاهتمام بالاثار والتاريخ لخلق وعي ثقافي باهمية الاثار لدى شريحة كبيرة من شرائح المجتمع ، كما يجب عمل الدعاية الاعلامية المناسبة للمواقع الاثرية والتعريف بها لجذب الليبيين لزيارتها ، تلك الزيارت من شأنها ان تعمق الوعي الاثري لديهم ، وعلى الدولة الليبية ان تشجع السياحة الداخلية بان تكون زيارة المواقع الاثرية مجانية لليبيين ، وان تصبح تلك المواقع والمتاحف جزء من العملية التعليمية بحيث تتحول الى قاعات للدرس يتلقون فيها التلاميذ دروسهم التاريخية على ارض الواقع . ان الوعي بأهمية الاثار هو العامل الايجابي الذي يُمَكّن من حماية المواقع الاثرية ويضمن عدم تعرضها للتخريب و للدمار.

ان الاجراءات التي سبقت الاشارة اليها تحتاج الى تضافر الدولة الليبية بأجهزتها وادارتها المختلفة ودعمها الا محدود لقطاع الاثار ، مع همة المجتمع المدني الذي يعول عليه من خلال وعي المواطن ، وتأسيس الجمعيات الاهلية المختصة التي تسهم في حماية الاثار ونشر الوعي الاثري بين المواطنين .

ومما تقدم هذه دعوة الى الاسراع في اعداد خطة علمية مدروسة لحماية الاثار ثم تنفيذها بحيث تتكاثف فيها جهات علمية وأمنية مختلفة وتنشد زيادة الوعي الاثري للمواطن الذي تقع عليه مهمة حماية تاريخه وثراثه ، وبهذا تحمى المواقع الاثرية.

ملخص محاضرة أ. خالد محمد الهدار عن الاثار المسروقة والمهجرة في مصلحة الاثار بتاريخ 23/12/2009

الآثار المسروقة والمهجّرة

نشرت في صحيفة اويا

متابعة: طارق السنوسي-صلاح التواتي السبت, 02 يناير - إي النار 2010 21:26




حصيلة أربعة عشر عاماً من البحث والتحري، وتتبع فصول قصص تعود بجذورها إلى قرون متعاقبة في القدم، منذ زمن القناصل، والرحالة الأوائل، والرواد المستكشفين، الذين ألهبهم غنى وغزارة ماتختزنه الأراضي الليبية من آثار، تعبر عن أحداث وفصول حضارات.. في رحلة غوص بين آلاف الوثائق.. والتدقيق في أرفف الخزائن بمختلف أشهر المتاحف العالمية التي اكتسبت شهرتها بماتقتنيه من لقى وتماثيل وقطع أثرية ليبية المنشأ .. تحمل هوية التراث الليبي، في رحلة البحث عن كنوز الإرث الحضاري الليبي.. أفردها الدكتور خالد محمد الهدار عضو هيئة التدريس بجامعة قاريونس في محاضرته التي أقيمت بمسرح متاحف السراي الحمراء في اليومين الماضيين، ضمن الموسم الثقافي لمصلحة الآثار.. بحضور الدكتور صالح العقاب الأمين الإداري للمصحلة، والأستاذ ادريس قطنش رئيس قسم الأبحاث والدراسات بالمصلحة، ومحمد الشكشوكي مدير قسم الشؤون الفنية، وعدد من المهتمين والأثريين الليبيين.

و أشار الهدار في بداية محاضرته إلى أن أكثر من 50 متحفاً في بريطانيا، والأسكندرية، ومالطا، والنمسا، وهولندا، والولايات المتحدة، واسبانيا، واليونان، وتركيا، وإيطاليا، وفرنسا، وكندا، والسويد، وبلجيكا، وأسكتلندا، ولبنان، وبنسلفانيا، ونيويورك، وسيفر، وغيرها تحوي آثار ليبية، سرقت أو هجرت خلال فترات تاريخية متعاقبة، نتيجة حزمة من العوامل أبرزها، جهل الولاة العثمانيين بقيمة تلك الكنوز، وسماحهم بالعبث في المواقع الأثرية نتيجة لامبالاتهم بتلك الكنوز التاريخية، ماأدى إلى انتشار حمى الكشف والتنقيب عنها من قبل الرحالة والمستكشفين، والقناصل الأوروبيين، بداية من القرن السابع عشر، وماقبله، وقد نتج عن ذلك تعرض عدد من المواقع الأثرية الليبية للسرقة والنهب المنظم، وهذا ماخلص إليه الهدار عبر تصفح الوثائق التاريخية، التي من بينها وثيقة تشير إلى اتفاقية بين والي طرابلس محمد شائب العين، والحكومة الفرنسية سنة 1692 منح بموجبها الفرنسيون أحقية نقل أعمدة من مدينة لبدة الأثرية، لبناء القصور والمباني الملكية في فرنسا، وأسفرت في نهاية الأمر عن نهب تمثال من مدينة بنغازي سنة 1695 يمثل سيدة رومانية وتم نقله إلى قصر فرساي لتزيين قاعة المرايا، وأنتهى به المطاف ضمن معروضات متحف اللوفر بعد قيام الثورة الفرنسية، وهو أول تمثال ليبي يصل أوروبا، وعلى نفس المنوال كان مصير تمثال "أثينا ونيوبيد" ولكن إلى وجهة أخرى نحو متحف أسطنبول هذه المرة، مفتتحاً الطريق أمام " كاربيلا أفندي" الذي عينه الوالي رضا باشا عام 1866 بمنصب سكرتير خاص، للتغطية على قيامه بحفريات في المواقع الأثرية الليبية كافة، لتزويد متحف اسطنبول بالقطع الأثرية، وكانت حصيلة عمله نهب 13 لوحاً حجرياً تحمل أروع النقوش التي كانت تزين أضرحة قرزة اختفى بعضها والآخر مازال ضمن معروضات المتحف، فضلاً عن شاهد قبر من مدينة لبدة، وتمثال من شحات.

وأضاف الهدار : إن عدم اهتمام السلطة العثمانية أو من يمثلها في ليبيا بالمدن الأثرية، ومساومتها بآثار البلاد بإهدائها إلى رؤوساء وملوك الدول الأوروبية، وانتشار ظاهرة إقامة المتاحف الأوروبية أدى إلى الإقبال على اقتناء التحف الأثرية، وتنامي دوافع شراء الأغنياء لتلك التحف ماشجع الرحالة والهواة على البحث في أطلال المدن الليبية الغنية بالآثار،إنشاء القنصليات في ليبيا لتمويل ودعم الرحالة، والمساهمة الفعلية في سرقة الآثار مثلما فعل نواب القناصل الإنجليز "وود"، و"ويري" الذي قام بنهب ونقل 140 قطعة أثرية من مدينة بنغازي، إلى المتحف البريطاني، بالإضافة إلى 35 تمثال "كراكوتا" سنة 1856ودفع ما جلبه ضابطا البحرية الأنجليزية "سميث"، ومساعده الملازم "بورشير"، القنصل الإنجليزي في بنغازي "جورج دينس" 1868– 1865إلى القيام بالتنقيب في مقابر مدينتي شحات، وتوكرا، وقام بنهب نحو 40 إناء، و 118تمثال، و 40تمثالاً صغيراً، من مدينتي بنغازي، وتوكرا، وإرسالها إلى المتحف البريطاني، مايمثل إحدى أكبر عمليات تهريب الآثار الليبية، وتمثل أباريق "أونوخوي" ، ونحو 380 قطعة أثرية، ونحت يصور الأميرة "برنيقي" تقدم قرابين للآلهة، ولوحات من مقبرة وادي بلغدير بشحات قام بقطعها بمنشار، وجدارية من واجهة قبر طفلة صغيرة بمدينة قورينا يرتقي تاريخه للقرن الثاني قبل الميلاد، وتماثيل الأمبراطور "بايوس"، وأواني فخارية مزينة بأعمال فنية تصور عربات تجرها القنطروس، أبرز ماقدمه نائب القنصل الفرنسي في بنغازي "دي بورفيل" سنة 1847إلى المكتبة الفرنسية، ومنها إلى متحف "اللوفر" الذي مايزال يعرض نحو 20 تمثالاً منها حتى الآن، كما قام القنصل الهولندي "فان برغل" عام 1830 بحفر بعض قبور شحات تحصل منها على مجموعة من الأواني الفخارية المزخرفة تعرض الآن في متحفي "ليدن" و"امستردام"، كما يعرض متحف اللوفر نقش مرسوم للأمبراطور البيزنطي اناستاسيوس، نقش هذا المرسوم في طلميثة على ثلاث كتل من الحجر الرملي، كانت مثبتة على واجهة الحصن الذي يمثل المركز الإداري للدوق.


واستعرض المحاضر أبرز عمليات النهب والتهجير للآثار الليبية، على يد الرحالة والمستكشفين، والدور السلبي للقناصل الأوربيين في نهب ماعثروا عليه أثناء تنقيبهم، وماأسفرت عنه المعاهدات بين ولاة طرابلس، والحكومات الأجنبية، لأجل التقارب السياسي، من سرقة وتهريب الكثير من المنحوتات المهمة والعديد من الأواني الفخارية الرائعة وأعداد هائلة من قطع العملة، وتقديم الهدايا المشتملة على قطع ولقى أثرية، حيث أشار الهدارإلى قيام يوسف باشا بإهداء نحو 40 عموداً من مدينة لبدة للملك جورج الرابع لتزيين، منصة "فرجينا وتر" بقصر "وندسور"، بالإضافة إلى مغامرات القنصل الإنجليزي في طرابلس العقيد "وارنجتون"، وسرقته لما تم الكشف عنه في مقبرة داخل بيته بضاحية المنشية، ونقل محتوياتها في 30 صندوقاً إلى المتحف البريطاني، وعرض جزء منها بالمتحف الأسكتلندي، وإسهامه في نقل 40 عموداً نهبها القبطان "وليام سميث" من مدينة لبدة إلى مالطا، ومنها إلى بريطانيا، إلى جانب قيام القناصل الفرنسيين" بنقل 3 أعمدة من مدينة لبدة، سنة 1774 لتزيين كنيسة "روا" بفرنسا، بالإضافة إلى نقل 29 عمود أثري من مدينة لبدة أيضاً، على يد القنصل الفرنسي "كلود لومير" 1866 لتشييد قصر "فرساي"، كمابادر إليه الطبيب الإيطالي "باولو ديلا شيلا" بزيارة مدن أقليم المدن الخمسة، شرق البلاد، مقدماً خلالها الكثير من المعلومات الأثرية ما اجتذب الكثير من الرحالة لزيارتها، ونهب ثرواتها والعبث بآثارها، كما ساهمت رحلة الأخوان "بيشي" عام 1822 ورحلة "جان ريمون باشو" عام 1825 - 1824 إلى التأكيد على غنى المنطقة بالآثار، وتقاطر الرحالة والمستكشفين عليها.
وأوضح الهدار أن القنصل الإنجليزي "وارنجنتون" لعب دوراً بارزاً في تهريب عدد كبير من القطع الأثرية، لاسيما بعد تنظيمه رحلتين الأولى في عام 1826 والثانية في عام 1827 من أجل جلب المنحوتات التي جمعها الأخوان "بيشي" من شحات، من بينها مجموعة متنوعة من الآثار ليست التي جمعها الإخوان "بيشي"فقط، بل تعدى ذلك أي نهب مجموعة من التماثيل الرخامية وشاهد قبر وإناء فخاري مزخرف، وقد وضعت تلك اللقى في خمسة صناديق أرسلت إلى اسكتلندا، ومازالت تعرض في المتحف الملكي باستكلندا.


وشدد المحاضر على دور ضابطي السلاح البحري الملكي البريطاني "سميث" ومساعده الملازم "بورشير"، اللذين قاما بتقديم أكبر كمية من القطع الأثرية، والمنحوتات إلى المتحف البريطاني دفعة واحدة، في رحلة إلى مدينة شحات عام 1861 قام بتمويلها "وارنجتون"، وأسفرت عن العثور على كمية كبيرة من المنحوتات بلغت 148 منحوتا، وعشرة نقوش من أهمها تمثالا للمؤله "باخوس" وآخر للمؤله "ابوللو" حامل القيثارة، وعدة تماثيل لأفروديت، ومجموعة من تماثيل الأباطرة الرومان، وأخرى شخصية، من أهمها رأس من البرونز ذو ملامح ليبية أو أفريقية يرجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ونحو 41 لقية، نقلت تلك المجموعة إلى بريطانيا على دفعتين، نظراً لكثرتها، ولاتزال تزدان ببعضها أروقة المتحف البريطاني، والبعض الآخر يقبع في مخازن ذلك المتحف.
وأشار الهدار إلى انتشار ظاهرة بيع الآثار مع بدايات القرن العشرين، مستشهداً بشراء الأثري "ريتشارد نورتون" تمثالاً رخامياً من أحد المواطنين بمدينة بنغازي، وغيرها من القص المماثلة.
واختتم الهدار محاضرته بالكشف عن قائمة ال 50 متحفاً التي تعرض ضمن مقتنياتها قطعاً أثرية ليبية، من أبرزها متحف اسطنبول الذي يعرض نقوشاً من مدينة قرزة، وتمثالاً "أثينا نيوبيد"، وشاهد قبر من مدينة لبدة، وتمثال من شحات، بالإضافة إلى مايعرضه المتحف البريطاني ضمن أجنحته من المنحوتات الرائعة والأواني الفخارية المزخرفة وقطع العملة المنهوبة من ليبيا، من أبرزها تمثال الفتاة "قورينا" وهي تصارع أسداً، ورأس تمثال من البرونز ذي ملامح ليبية أو أفريقية يرجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد، و عثر عليه بمعبد ابوللو بمدينة شحات الأثرية، ووصل إلى المتحف البريطاني عام 1861 ويبدو أن هذا الرأس كان جزءاً من تمثال كامل من البرونز، لم يبقَ منه إلا الرأس و الرقبة بارتفاع 35 سم.

ويضم متحفا "كوبنهاجن" ومدريد، مجموعات عملة، وتماثيل "تيركوتا"، من كنوز الحضارات الليبية، كما يحوي متحف الفاتيكان نحو 600 قطعة أثرية لماقبل التاريخ نقلت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى روما، إلى جانب إناء لحفظ رماد الموتى معروض بمتحف فيينا، ويعرض متحف أونتاريو بكندا كوب كورنثي عثر عليه في الفترة من 1965 – 1963 بحرم معبد "ديمترا" بمدينة توكرا، كما يوجد بمتحف المعهد الشرقي بشيكاغو عدد من القطع الأثرية من مدينة طلميثة، بالإضافة إلى مايعرضه المتحف الملكي باستكلندا من مجموعة من التماثيل الرخامية والأواني الفخارية، وبعض القطع الأثرية المختلفة في متاحف فرنسا، تشمل، اللوفر، وسيفر، والمكتبة الوطنية بباريس، التي تعرض مجموعة كبيرة من المنحوتات والأواني الفخارية وكمية هائلة من التميثيلات الطينية وغيرها، فضلاً عن مجموعة من الأواني الفخارية والتميثيلات الطينية في متحفي ليدن وامستردام بهولندا، وتعرض متاحف مالطا، واليونان، وكريت، عدد من التماثيل الجنائزية المكتشفة بمدينة شحات الأثرية، وفي متحف بوسطن بالولايات المتحدة توجد قنينة زجاجية، وعملات أغريقية عثر عليها في مدينة قورينا، كما يعرض متحف "سوانسي" ببريطانيا مجموعة الأثري "ريتشارد نورتون" الذي قام بالتنقيب في ليبيا سنة 1911 ويضم متحف ولاية "بنسلفانيا" الأمريكية تمثال من مدينة شحات يمثل المؤلهة "منيرفا نايكي"، وغير بعيد ينتصب بمتحف جامعة "بنسلفانيا" تمثال "فينوس" الرائع، يصور آلهة الحب في مشهد نادر، وهي تعصر جدائل شعرها، وعلى قائمة المتاحف يبرز متحف مانشستر بماتضمه أجنحته من آثار ليبية، ومايلفت الانتباه أن 25 كأس "بانيثيني"، من بين ال 30 من الكؤوس "البانثينية" يبلغ ارتفاعها نحو 60 سنتيمتر، وكانت تمنح للفائزين بالألعاب البانثينية، عثر عليها في ليبيا، تتوزع على 8 متاحف عالمية من بينها "سيفر" بباريس، وبرلين بألمانيا، ونيويورك، وديترويت، وبروكسل، والأسكندرية، واللوفر، ولاتمتلك منها ليبيا سوى خمسة كؤوس قطع فقط.

وخلص الباحث إلى ضرورة تنشيط البحث عن الوثائق والمعاهدات التاريخية، التي توثق لأهم عمليات تهريب الآثار الليبية، وتعزيز برامج التوعية والتثقيف بأهمية الآثار بين المواطنين، بالإضافة إلى إنشاء مكاتب تابعة للشؤون الخارجية تختص باسترجاع الممتلكات الثقافية المسروقة من ليبيا، وإقامة متحف كبير لصور ونماذج لها، واستثمار تلك الآثار للدعاية والترويج السياحي لليبيا، وتفعيل الوسائل المختلفة لاستعادة واسترجاع القطع الأثرية الليبية، سواء عن طريق التدخل السياسي أو التفاوض، أو العمل على تنظيم حملات بالتعاون مع البعثات الأثرية العاملة في ليبيا، للضغط على المتاحف، والبحث في كيفية وصول القطع إلى المتاحف، وكما يقال رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.. وليبيا سباقة بخطوات في تمهيد الطريق لاستعادة عدد من القطع الأثرية من ايطاليا وفرنسا خلال العقدين الأخيرين.

خارج النص .. اتفاقية استرجاع الممتلكات الثقافية
تجبر اتفاقية اليونسكو لعام 1970 الدول الموقعة عليها باتخاذ كافة الإجراءات لمنع متاحفها من الحصول على قطع أثرية وفنية بطرق غير مشروعة، كما تجبر في نفس الوقت الدول الموقعة على الاتفاقية على إعادتها إلى بلادها الاصلية، ولا تطبق نصوص الاتفاقية إلا على عمليات تهريب وسرقة الآثار والقطع الفنية التى جرت بعد عام 1970 أما القطع المهربة قبل ذلك التاريخ فإنها خارج اطار قوة هذه الاتفاقية.. ويرى عدد من المتخصصين أنه وفى حال عدم وجود قوانين تعطى الحق للدول باستعادة آثارها وقطعها الفنية التى هربت بشكل غير شرعى فإن الإرادة السياسية تلعب دورا مهماً، في استعادة الممتلكات الثقافية، وقد نجحت ليبيا بفضلها في استعادة تمثالي فينوس لبدة 1999 وفينوس شحات 2008 .

الاثنين، 22 فبراير 2010

الاثرون في العصر البيزنطي


الاثرون (البلدة الحمراء) في العصر البيزنطي


عندما يسير المرء عبرالطريق الساحلي الرابط بين سوسة و درنة فانه يترك الجبل الاخضر على يمينه و البحر على يساره تلفت انتباهه بعض القرى و المناطق الخلابة الجميلة حيث الجبل يعانق البحر ويجعله ينكسر مرتدا الى الخلف ناحتا باصابعه وجه ذلك الجبل ، هذه رأس الهلال بمناظرها الخلابة ، التي عرفت قديما باسم ناوستاثموس، و بعد مغادرتها وعلى مسافة تتراوح ما بين 9 - 10 كم ، يصادف المسافر قرية الاثرون ، التي تحوي بعض المعالم الاثرية قرب شاطئ البحر ، الرابضة على مسافة حوالي 350 مترا من الطريق الرئيسي.

ان هذه التسمية التي عرفت بها هذه القرية هي تحريفا للتسمية القديمة إريثرون (Erythron) التي ذكرها كتاب مسافات البحر الكبير لمؤلف مجهول في القرن الاول ق.م. وذكرها الجغرافي بطليموس في القرن الاول الميلادي ، وتعني التسمية اللون الاحمر لان المنطقة اشتهرت بلونها الاحمر من حيث لون طينتها و لون صخورها الى حد ما ، وقد اشتهر هذا الموقع الاثري في العصر البيزنطي فقد ذكرت اريثرون في بعض رسائل الاسقف سينسيوس (370-413م) حيث اشار في الرسالة رقم 53 الى بعض اساقفتها مثل اوريون (365-366م) والاسقف بول الذي كان معاصرا للفترة التي اصبح فيها سينسيوس مطرانا على الاقليم ، وقد سبق بول الاسقف ساباتيوس الذي مات في 401 م، اضافة الى ذكرها في رسائل ثيوفيلوس بطريرك الاسكندرية ، وهذا يؤكد انها كانت مركز اسقفية في القرن الرابع الميلادي ، وازدادت مكانتها الدينية في القرن الخامس بحضور بعض اساقفتها المجامع المسكونية مثل جالينكوس في مجمع افيسوس عام 449 م و يحتمل ان الاسقف دراكونتيوس الذي حضر مجمع خالقدونيا المنعقد عام 451 م ينسب الى اريثرون ، ولعلها ازدهرت بعد ان اصبحت ابوللونيا (سوزوسا = سوسة حاليا) عاصمة للاقليم في منتصف القرن الخامس الميلادي بسبب قربها المكاني من تلك العاصمة ، وربما رفعت الى مصاف المدن (polis) اسوة بقصر ليبيا التي عرفت بهذه الصفة. ومن المؤكد ان لهذا الموقع اهمية زراعية بسبب خصوبة وادي الاثرون ،وقد اشاد سينسيوس بالمياه العذبة بالاثرون حيث توقف بها هذا الاسقف في طريقه الى الاسكندرية منطلقا من ميناء فيكوس (رأس الحمامة) بعد ان قطع ما يقرب 60 كم بحرا ، حيث توقفت به السفينة التي تقله للتزود بالماء(رسالة رقم 53 تؤرخ قبل عام 398م) ، ويرجح البعض ان الميناء المشار اليه يعد جزء من خليج رأس الهلال لان لاثرون الحالية لا يوجد بها اي مرفأ ، وان المياه العذبة تتطابق مع عين تريتش قرب رأس الهلال ، واذا كان هذا صحيحا ، فان الاتساع المكاني للاثرون يشمل اجزاء من منطقة رأس الهلال ، وان هذا الامتداد لا يتفق مع الموقع الحالي للاثرون بل يتعداه شرقا وغربا ، وهذا يتفق مع ما يذكره سينسيوس عن اريثرون. كما يبدو ان للموقع مكانة دينية جعلت البيزنطيين يهتموا به ويشيّدوا به كنيستان في اوائل القرن السادس الميلادي ، وكان مقصدا للحجيج آنذاك.

وعلى الرغم من ان الاخوين بيتشي اول من زارا هذا الموقع الاثري عام 1821-1822 ولفتا الانتباه الى انه يقابل إريثرون عند بطليموس ، وهذا حال الرحالة باشو عام 1824 الذي توصل الى النتيجة نفسها ، الا ان جودتشايلد يعد اول من لفت الانتباه الى بقايا احدى الكنيستين (الشرقية) عام 1951 ، وهي التي كشف عنها الامريكي والتر ويدرنج (Widring) ما بين 1960-1962 واثناء تلك الحفريات كشف عن الكنيسة الاخرى (الغربية) ، وفي عام 1964 قام مراقبة الاثار بشحات باعمال ترميم لجدران الكنيسة الغربية ، كما اجريت على الكنيستين عدة دراسات من ويدرنج وجودتشايلد وورد بيركنز والاخيرين نشرت الاساتذة رينولدز عملهما عن الاثرون عام 2003 ، كما قامت البعثة الاثرية الفرنسية (2001-2003) باعمال ترميم وحفريات بالكنيسة الغربية نشر عنها البرفسور لاروند وميشيل دراسة قيمة عام 2004 ، وما زالت الاعمال مستمرة في الاثرون حيث انتقل الاهتمام الى الكنيسة الشرقية التي بدأ العمل بترميمها .

ومن اهم معالم الاثرون الاثرية كنيستان يبعدان عن بعضهما مسافة 200 مترا سميت احداهما بالكنيسة الشرقية والاخرى بالغربية وفقا لموقعهما ، وقد بنيا في منطقة مرتفعة عن سطح البحر ، ويجاورهما جبانة تكونت من مجموعة من مقابر في شكل حجرات منحوتة في الصخر تفتح على البحر، اضافة الى وجود معصرة زيتون وبعض البقايا الاثرية. وسيتم التطرق في هذه المقالة الى الكنيستين وستكون البداية بالكنيسة الغربية لانها بفضل الترميمات التي اجريت عليها اصبحت حالتها افضل من الكنيسة الشرقية.

الكنيسة الغربية :

عند النظر الى مخطط هذه الكنيسة يلاحظ انه مستطيل الشكل يمتد ضلعها الطويل من الشرق الى الغرب بمسافة 26 مترا ، ويمتد الضلع القصير من الشمال الى الجنوب بمسافة حوالي 15.65 مترا ، و يتم الدخول اليها من مدخل يتوسط الجانب الشرقي للكنيسة حيث يصادف الداخل قاعة مستطيلة تعرف اصطلاحا باسم (نارثيكس) تمتد بعرض الكنيسة وقد قسمت الى ثلاثة اجزاء بواسطة عقدين تحملها اربع دعامات ، وقد بقى من جدرانها سبعة صفوف حجرية اضيف اليها صفوف اخرى بعد الترميم ، وعن طريق هذه القاعة يتم الدخول الى اجزاء الكنيسة الرئيسة حيث توجد بها ثلاثة مداخل احداهما رئيسي مدعم بعوارض رخامية يؤدي الى الصحن بعد استعمال درجين ، اضافة الى مدخلين صغيرين يؤديان الى الجناحين ، ومن حيث مخططها الداخلي فهو لا يختلف عن سائر كنائس الاقليم اي الطراز البازيلكي الثلاثي الاجنحة حيث ان الكنيسة قسمت الى صحن مركزي (11 × 7.30 مترا) ـ اكبر اجزاء الكنيسة ـ يمتد من الشرق الى الغرب يحيط به جناحان من الشمال الى الجنوب (12.77 ×2.36 مترا)، وقد جاء هذا التقسيم الثلاثي عن طريق صفان من الاعمدة الرخامية يتكون كل صف من خمسة اعمدة التي رفعت على قاعدة حجرية من الحجر الجيري تمتد من الشرق الى الغرب ادت الى فصل الصحن عن الجناحين بارتفاع 63 سم ، يتوج هذه الاعمدة تيجان كورنثية من الطراز الثيوديسي (نسبة الى عصر الامبراطور ثيوديسيوس الثاني 408-450م ) والتي تميزت بأن زخرفتها تمثلت في صفين من اوراق الاكانثوس وزخرفة الوريدة ، يعلو تلك التيجان كتل حجرية مشطوفة الجانبين (او ما يشبه التيجان الايونية)، كل منها يحمل زخرفة صليب ، وبدورها تحمل الاجزاء التي يستند عليها السقف الخشبي . كما يلاحظ ان المسافة الفاصلة بين الاعمدة قد اقفلت بلوحات رخامية يزيد ارتفاعها عن متر زخرفت واجهتها بزخرفة هندسية تمثلت في مستطيلات متداخلة تحصر مُعينات متداخلة ينتهي بعضها بورقة نباتية ، وتحصر المعينات في مركزها صليب لاتيني ، كما زخرفت واجهتها الاخرى بمستطيلات متداخلة يتوسطها طغراء مستديرة تحصر في مركزها زخرفة نباتية ، ويخرج من الطغراء من الاسفل غصنان ينتهيان بورقة لبلاب تلتصق بقاعدة كلا الصليبين اللذين يحيطان بالطغراء.

كما يلاحظ انه في الناحية الغربية من الصحن توجد مساحة فصلت عن بقية الصحن و الحنية ، وهي الهيكل الذي يعرف اصطلاحا باسم (البيما ) ، والهيكل مساحة مربعة الشكل تتوسطها مائدة القرابين الرخامية ، كما يوجد هناك منبر صغير ، وقد حصرت هذه المساحة بواسطة دعامات رخامية مستطيلة مزخرفة الجوانب و ينتهي بعضها من الاعلى بنصف كرة رخامية ، وهي تحصر ما بينها لوحات رخامية لغلق الهيكل من ثلاث جهات زخرفت بزخارف مشابهة للوحات التي تفصل الصحن عن الجناحين ، الا ان بعضها زخرف بزخرفة المعينات المتداخلة وعلى الجانب الاخر زخرفة صليب . يمكن الدخول الى الهيكل عن طريق الحنية ، وعن طريق ممشى يطل على الصحن وهو محصور بدعامات ولوحات مثل بقية الهيكل الا ان دعاماته يعلوها عمود صغير. ويوجد خلف الهيكل حنية في الجدار الغربي في شكل ثلاث ارباع الدائرة بنيت من الحجر الجيري وغير بارزة عن جدار الكنيسة ، يزينها عمودان من الطراز الكورنثي على جانبيها ربما كانت تحمل قوس او ما يعرف بقوس النصر. يحيط بالحنية حجرتان صغيرتان يتقدم كل منهما حجرة امامية صغيرة تفتح على الرواق ،اهم هاتين الحجرتين الحجرة الشمالية التي يبدو انها استخدمت ضريحا حيث كشف بها عن قبر(تابوت) مستطيل على شكل صندوق ذخائر ربما وضعت به مخلفات احد الشهداء او الاساقفة ، وهي بهذا تشبه الكنيسة المركزية في سوسة وكنيسة رأس الهلال.يضاف الى ذلك وجود عدة قبور داخل الكنيسة حفرت اسفل الارضية حيث كشف المنقبين عن قبرين في الجناح الشمالي و قبرين في الجناح الجنوبي و قبر في القاعة الامامية (نارثيكس) ، وفي القبر الاخير عثر على مجموع كبيرة من العظام ترجع الى سبعة بالغين و طفلين ، كما احتوى قبر من قبري الجناح الجنوبي على اماكن تجميع عظام في شكل تابوت صغير مزود بغطاء ، ويبدو ان المقابر الاخرى قد انتهكت قديما ثم اعيد غلقها بعناية. كما تجدر الاشارة الى الاهتمام بتبليط الصحن بلوحات من رخام رمادي مزّرق ، وقد استغل الجزء السفلي من الصحن صهريجا لتجميع المياه واستغلالها في شؤون الكنيسة ، كما عثر على صهريج آخر في الجزء الشمالي من القاعة الامامية يؤدي في المهمة ذاتها . وقد دعم الجدار الشمالي للكنيسة بجدار آخر يبدو انه ليس لغرض دفاعي انما لتدعيم الجدار بسبب الرياح البحرية المحملة بالرطوبة والتي اثرت في متانة الجدار مما استلزم ترميمه. ويرجح ان هذه الكنيسة الجنائزية قد هجرت اولا حيث نقلت رفات الاساقفة التي كانت في الحجرة الشمالية الى حجرة تعميد الكنيسة الشرقية.

الكنيسة الشرقية:

سبقت الاشارة الى انها تقع الى الشرق من الكنيسة الغربية بمسافة 200 مترا ، وانها اقل حفظا منها ، الا انها اكبر حجما من الكنيسة الغربية حيث ان ابعادها 32 × 21.5 مترا ، ومخططها على غرار الكنيسة السابقة اي الطراز البازيليكي الثلاثي الاجنحة الا ان حنيتها تتجه نحو الشرق، وهي اقدم من حيث تاريخ البناء بحوالي 15 عاما على الارجح ، ويمكن ان توصف هذه الكنيسة بشيء من التفصيل من خلال مخططها الافقي و بعض بقاياها المتناثرة داخل الكنيسة وخارجها على النحو الاتي :

للكنيسة مدخل وحيد في الزاوية الشمالية الغربية يقود مباشرة الى القاعة الامامية (النارثيكس) ويبدو انه بديل عن المدخل الاصلي الذي كان يتوسط الجدار الغربي واغلق في مرحلة متأخرة ، و قد قسمت القاعة الى ثلاثة اقسام بواسطة عقود تمتد افقيا ، وتوجد ثلاثة مداخل مزينة جوانبها بالرخام في الناحية الشرقية من القاعة تؤدي بدورها الى الصحن والجناحين الجانبيين (الاوسط بعرض 2.5 مترا و الجانبيين بعرض مترين). المدخل الاوسط يؤدي الى الصحن الذي يعد اكبر اجزاء الكنيسة (21 × 9.5 مترا) والمبلط بلوحات رخامية كبيرة الحجم ، وقد فصل على الجناحين بصفين من الاعمدة الرخامية التي تحمل تيجان كورنثية يعلوها تيجان ايونية التي يفترض انها كانت تحمل الاقواس التي يستند عليها السقف. كل صف يتكون من خمسة اعمدة كان يوجد بينها شاشات رخامية لسد المسافات بين الاعمدة التي تسهم في فصل الصحن عن الجناحين. وقد بلطا الاخيران بلوحات حجرية من الحجر الرملي نفذت بطريقة زخرفية جعلتها تظهر في شكل جمالي بزخارف هندسية رائعة. اما الهيكل فيوجد في النهاية الشرقية للصحن متقدما عن الحنية ، يأخذ الشكل المستطيل (4 × 7.80 مترا) ومحاط بجدران تفصله عن الصحن الا انه مفتوح عن الحنية ويتوسطه مذبح رخامي مرفوع على قاعدة رخامية . وتقع الحنية النصف دائرية في الجدار الشرقية باتساع 2.5 مترا اضيق من عرض الصحن ، ويوجد بها بقايا مدرج (synthronon) ربما توجد علامات تؤكد مكان عرش الاسقف. يحيط بالحنية حجرتان جانبيتان يتقدم كل منهما حجرة صغيرة تفتح على الجناح وهي بهذا تشبه الكنيسة الغربية ، واذا كانت الحجرة الشمالية الشرقية لا تشكل اي اهمية معمارية ومتواضعة فان الحجرة الاخرى اي الجنوبية الشرقية فهي اكثر زخرفة حيث جدرانها كانت مملطة وقد استخدمت حجرة تعميد حيث يوجد في منتصف ارضيتها حوض تعميد صليبي الشكل استغل مدفنا حيث نقلت اليه عظام الحجرة الشمالية بالكنيسة الغربية بعد هجرها ، وقد بلطت ارضية هذه الحجرة بلوحات حجرية على خلاف الحجرة الاخرى التي تركت بدون تبليط وكان بالحجرة الاخيرة مدخلا اقفل فيما بعد يؤدي اليها من خارج الكنيسة في جدارها الشرقي.

ويرجح انها كانت تمثل كاتدرائية الاثرون اي انها كانت مقرا لاسقف هذه القرية. ويلاحظ ان جميع اعمدتها و بقية زخارفها الرخامية منتشرة على سطح الكنيسة وخارجها ، وقد بدأت البعثة الاثرية الفرنسية في ليبيا ترميمها هذا العام وخلال سنوات قادمة يمكن ان تكون في حالة افضل وتظهر نتائج جديدة تسهم في اعادة تركيب سجلها التاريخي.

تعليق على رخام الكنيستين:

من اللافت للانتباه في هاتين الكنيستين كثرة استعمال الرخام فيهما وهذا قد لايتناسب مع كون الكنيستين تقعان في قرية صغيرة ، ومن الصعب ايجاد تفسير منطقي للبذخ في تشييدهما لاسيما الكنيسة الغربية الا اذا اخذ في الاعتبار انها كانت كنيسة مقدسة يحج اليها مسيحي المنطقة ، وربما انفق عليها بعض الاغنياء و المانحين الذين يملكون اقطاعات زراعية لعبت دورا مهما في اقتصاد الاقليم ، كما انه لا يمنع افتراض ان الدولة هي التي صرفت لبناء الكنيستين. وهذا الاقتراح كان معتمدا في الاساس على ان استعمال رخام محاجر جزيرة بروكونيسوس الذي تنسب اليه اعمدة الكنيستين كان احتكارا امبراطوريا الى ان تأكد مؤخرا ان رخامها كان يتاجر فيه ايضا من قبل التجار ويمكن تصديره بدون اذن القسطنطينية .

ومن خلال الشكل العام للاعمدة الرخامية وبقية التجهيزات الاخرى يتضح ان بناء هذين الكنيستين كان مشروعا قد خطط له واستوردت مواد بنائه لاسيما الرخام من الخارج ، فالاعمدة منسجمة مع بعضها من حيث حجمها و طرازها و اصلها مما يوحي انها ليست مأخوذة من مبان سابقة مثل عادة البيزنطيين في اعادة استعمال المباني السابقة (spolia) بل استوردت جاهزة من مصدرها الاصلي ثم ادخلت عليها تعديلات في حجمها مثلا عند بناء الكنيسة .

وقد سبقت الاشارة الى ان الاعمدة مصدرها جزيرة بروكونيسوس والواقع ان هذا صحيح الى ابعد حد بعد ان تأكد ذلك من خلال الدراسة العلمية الدقيقة للرخام ، وكان من الطبيعي ان يتجه رأي الاثريين الذين درسوا الكنيستين الى ان رخامهما من بروكونيسوس وذلك بفحص تلك الاعمدة بالعين المجردة حيث ان ذلك الرخام يعرف من خلال لونه المميز وبعض مواصفاته الاخرى ، وهذا ما دعا وورد بيركنز الذي اهتم بدراسة مصدر الرخام في الاقليم للاشارة الى ان المصدر الرئيسي لرخام ليبيا في العصر البيزنطي كان محاجر جزيرة بروكونيسوس ، لكنه اضاف انه في حالة رخام الاثرون يبدو ان بعضه قد جلب من جزيرة ثاسوس . و تأكدت هذه النتائج من خلال الدراسة المعملية التي قام بها ثلاثة من الباحثين الايطاليين عام 2005 على 27 عينة اخذت من اماكن مختلفة من رخام الكنيستين فحصت عن طريق تحليل الاشعاع النظائري ، ومنظار التحليل الطيفي و البيتروغرافي اضافة الى استعمال الرنين الالكتروني المتوازي المغناطيسية(EPR) ، وقد اتضحت عناصر مكونات الرخام ومميزاته الدقيقة ، وللوصول الى مصدر الرخام قورنت نتائج التحليل بعدد 1346 عينة من 19 موقع اثري مختلف ، وقد بين ان غالبية رخام الاثرون (59%) مصدره محاجر بروكونيسوس ، والبقية (30%) اتت من رخام ثاسوس ، اضافة الى ثلاث عينات من باروس و مليتوس وافيون و العينات الاخيرة يبدو انها مأخوذة من مباني سابقة، ومما يلفت الانتباه ان رخام الاعمدة بقواعدها وتيجانها قد استورد من بروكونيسوس بينما رخام الالواح التي تغلق المسافات بين الاعمدة جلب من محاجر ثاسوس ، وهذا يعني ان الرخام المستعمل في كنيستي لاثرون لم يكن بالمصادفة انما اختير مصدرها عن قصد بحيث ان نوعية رخامها مناسب لوظيفته في الكنيسة ، كما انه قد يكون اقل تكلفة ، وهذا يفسر استعمال نوعين من الرخام وفي مكانين مختلفين في بناء الكنيستين.