الثلاثاء، 27 أبريل 2010

معالم اثرية في وادي زازا (ليبيا)


كهف الطيور وكهف النعامة في وادي زازا

من مواقع ما قبل التاريخ في الجبل الاخضر



يعد وادي زازا (جازا) من اهم مواقع النقوش الصخرية التي ترجع الى عصور ماقبل التاريخ في شرق ليبيا ، هذه النقوش التي جسدت على جدران كهفين كشف عن احدهما في عام 1972 والاخر عام 1990 بواسطة مكتب آثار العقورية في وادي زازا الذي يقع على مسافة حوالي 60 كم للشرق من مدينة بنغازي ، الى الجنوب من قرية المبني وبرسس ويمكن الوصول اليه عبر طريق يمتد الى الجنوب من القريتين. وتنتشر على جانبي هذا الوادي ـ الذي يمتد بطول 120 كم ـ عدة كهوف صخرية كانت مجالا لنشاط الانسان منذ عصور ما قبل التاريخ وخلال العصور التاريخية القديمة ، ويحتاج الوادي الى اعمال مسح ودراسة اثرية شاملة حتى يتبين حضارة هذا الوادي والاودية الاخرى بالجبل الاخضر التي كانت مقرا لحضارة الانسان الليبي عبر عصوره المختلفة. وسيكون الحديث هما عن كهفين من كهوف هذا الوادي عثر بهما على نقوش صخرية وبقايا اخرى.

يقع الكهف الاول على الجانب الشرقي من الوادي في مكان مرتفع يمكن الوصول اليه بواسطة التسلق من قعرالوادي ، و يتكون الكهف من تجويفين احداهما على يسار المدخل وهو اقل عمقا من التجويف الاخر على يمين المدخل ، ويلاحظ وجود كوات منحوتة في جدرانه ، عرف هذا المكان باسم كهف الطيور او حجف القطارة ، والتسمية الاولى يبدو انها بسبب رسوم الطيور التي نقشت على جدران الكهف . واول زيارة علمية للكهف قامت بها استاذة النقوش جويس رينولدز عام 1974 برفقة أ. عبدالحميد عبدالسيد وملاحظ مكتب آثار توكرة آنذاك بغرض معاينة الكهف و لاسيما النقوش الاغريقية التي كانت منقوشة الى جانب الرسوم الصخرية ، ولم تنشر نتائج تلك الزيارة الا في عام 1997 في العدد الثالث من السلسلة الجديدة من مجلة عريبيا القديمة (ليبيا القديمة) ص. 47-50 ، و يوجد بمكتب آثار العقورية تقرير عن تلك الزيارة استفاد منه أ. سعد بوحجر عندما قام بدراسة الرسوم الصخرية في ذلك الكهف في رسالته للماجستير.

تركزت النقوش الصخرية على جدران الكهف وسقفه ، وقد تمثلت في مجموعة من الطيور ذات المناقير الطويلة وقد نقشت باشكال مختلفة بعضها رسم بشكل مقلوب ، لعلها تمثل طائر الحجل ، وهناك اشكال طيوراخرى غير واضحة نقشت في اماكن مختلفة من الكهف ، الا ان ابرز الحيوانات المنقوشة غزال على سقف التجويف الايسر، اما عن تاريخ هذه النقوش فانه قبل موت تشارلز ماكبرني رائد دراسات ماقبل التاريخ في ليبيا شاهد صور تلك النقوش الصخرية و نسبها الى اسلوب الحضارة او الثقافة القفصية التي بدأت في بداية الالف الخامسة ق.م.، وبصورة عامة ترجع الى عصر الرعي او الرعاة .

اما النقوش الكتابية الاغريقية فقد حصرتها رينولدز في 12 مجموعة نقشت بشكل رديء الى جانب الطيور والغزال ، يلاحظ ان غالبية تلك الكتابات تمثل اسماء معظمها اغريقي مثل كاليماخوس و ديديموس و اريماس و خاريلاس ، بعضها ذات اصل لاتيني مثل بوبليوس و بروكلوس ، وبعضها قد يكون اصله ليبي مثل اديداس ، هذه الاسماء نقشت بايدِ مختلفة اقدمها يرجع الى القرن الثالث ق.م. وبعضها يرجع الى العصر الروماني ، ربما نقشت لاسباب دينية حيث لايوجد دليل ان الكهف قد استعمل للسكن او للدفن ، وعلى خلاف ذلك ربما كان الكهف مكان للتعبد على غرار كهوف صخرية اخرى انتشرت في الجبل الاخضر مثل كهوف وادي بلغدير في شحات و كهوف المحاريث وحقفة الخزاعلية في وادي صنب والتي وجدت بها ادلة تربطها بمعتقدات الليبيين ، وفي كهف الطيور وجدت اشارة الى مؤله ليبي يسمى جوبا (Gobba) ربما كانت تقدم اليه التقدمات والقرابين في هذا الكهف ، ومما يؤكد هذا وجود عبارات تشير الى النذور والصلاة والتعبد على جدران الكهف ، اما لماذا كتبت الكلمات بالاغريقية فيبدو ان المتعبدين في هذا الكهف كانوا من السكان الليبيين القاطنين في هذه المنطقة او قرب منها ، والذين أخذوا بعادات الاغريق و لغتهم .

اما الكهف الثاني الذي يقع على الجانب الغربي للوادي وعلى ارتفاع شاهق ، الى الشمال من السد المقام في هذا الوادي ، وقد اكتشف من ناحية اثرية في 22/7/1990 عندما كان كاتب المقالة امينا لمكتب آثار العقورية يقوم برفقة الباحث بمراقبة آثار بنغازي آنذاك أ. سعد ابوحجر بالبحث عن كهف الطيور لتوثيقه فقادتهما الصدفة الى اكتشاف كهف آخر مليئ بالنقوش الصخرية ، قاما بزيارته اكثر من مرة لتوثيق الاعمال الفنية المنقوشة على جدرانه واخذ ابعاده ، هذه الاعمال التي كانت الركيزة التي استند عليه أ. بوحجر في رسالته للماجستير التي شملت دراسة الكهف ونقوشه وتحليلها ، كما قام فريق من مراقبة آثار بنغازي بزيارة للكهف في شهر يناير 2010 وقاموا بتصوير نقوشه ، وصور المنشورة هنا هي جزء من الصور التي التقطها مصور المراقبة طارق تيكه لكهف النعامة.

اطلق المكتشفان تسمية " كهف النعامة " على هذا الكهف بسبب وجود رسم منقوش كبير الحجم لطائر النعامة ، وهنا اول ظهور للنعامة في نقوش ما قبل التاريخ في شرق ليبيا. وقد جسدت النقوش على الجدار المقابل للمدخل ، ولم توجد اي نقوش على السقف ، ويبدو ان هذا الموقع استغل في العصر الاغريقي و الروماني يستدل على ذلك من خلال انتشار شقف فخارية امام الكهف اضافة الى وجود صهريج مبطن بجانب الكهف ربما استغل للتخزين.

ويلاحظ ان نقوش هذا الكهف اكثر وضوحا وحفظا من نقوش الكهف الاول ، كما انها تتميز بكبر حجمها ولاسيما المجموعة الاقدم حيث يوجد بالكهف نقوش ترجع الى فترتين حضارتين ، الاقدم التي ربما ترجع عصر الرعي او الرعاة والى الحضارة القفصية او اقدم من ذلك وتمثلت نقوشها في حيوانات متنوعة من بينها نعامة تعدو باتجاه اليسار، وهناك بقرة خلفها عجل يركض نحوها ، ومشهد بقرة اخرى ، اضافة الى ثلاثة غزلان احداهم صغير ، يلاحظ وجود بعض الطيور وحيوانات اخرى منقوشة ولكنها غير واضحة ، وقد ظهرت هذه الحيوانات في مشاهد متنوعة اغلبها متحركة وليست ثابتة، ويمكن مقارنتها بالرسوم الصخرية في منطقة الاكاكاوس وغيرها من مواقع الفن الصخري في ليبيا.

اما النقوش الصخرية الاحدث زمنا فهي اقل عددا واصغر حجما واسلوب تنفيذها مختلف ، واقل حرفية مقارنة بالرسوم المنقوشة الاقدم ، وقد نقشت اسقل المجموعة الاولى ، ومن مشاهد هذه المجموعة حصان عليه سرج ، وكلب ، وذئب و رسم لجندي يحمل سيف وترس ، ويعد هذا الرسم اول ظهور للاشكال الآدمية في الرسوم الصخرية في شرق ليبيا ، ومن خلال الاسلوب الفني وتحديدا رسم الاشكال بالطريقة الظلية الحالية من التقاصيل التشريحية يبدو ان تأريخها يرجع ما يعرف بفترة الحصان التي بدأت منذ منتصف الالف الثانية ق.م.

قصة الاخوين فيلاني(فيليني) بين الاسطورة والواقع

قصة الاخوين فيلاني(فيليني) بين الاسطورة والواقع


ردد بعض الكتاب الرومان منذ القرن الاول ق.م حتى القرن الثالث الميلادي حكاية الاخوين فيلاني التي تتلخص ان نزاعا حدث بين الاغريق في قوريني (كيريني) و الفينقيين(البونيقيين) في قرطاجة حول الحد الفاصل بينهما او النقطة الحدودية التي تنتهي عندها نفوذ كلا القوتين المهيمينتان على الساحل الليبي الاغريق شرقا والبونيقيين غربا ، واورد اولئك الكتاب طريقة غريبة استعملت لتحديد الحد الفاصل بينهما ، بحيث يخرج عدّائين من مدينة كيريني في الوقت ذاته الذي يخرج فيه عدّاءان من مدينة قرطاجة والنقطة التي يلتقي عندها العدّاؤون الاربعة تكون النقطة الحدودية ، وقد ذكر المؤرخ الروماني سالوست اسم عدّائي قرطاجة وهما الاخوين او التوأمين فيلاني (Philaeni) ولم يشر الى اسم عدّائي قوريني ، وذلك بسبب تضحيتهما لاثبات صدقهما وبيان ذلك انه عندما التقى العدّاؤون في نقطة ما على خليج سرت كان الاخوان فيلاني اي عدّائي قرطاجة قد قطعوا مسافة اطول من تلك التي قطعها عدّاءا قوريني حيث يشير البعض انه يرجح ان القرطاجيين كانوا يقطعون سبع مراحل او اجزاء في الليلة الواحدة في مقابل مرحلتين يقطعها القورينيين ، ومن ثم تحصل القرطاجيين على مساحة اكبر من تلك التي تحصل عليها اغريق قوريني نتيجة هذه المنافسة الرياضية السياسية ، ولم يرتضِ الاغريق هذه النتيجة واتهموا القرطاجيين بانهم لم ينفذوا ما اتفق عليه في وقت خروج العدّايين اي انهموا خرجوا قبل الوقت المتفق عليه ومن ثم قطعوا مسافة اطول ، وهذا ما نفاه الاخوين فيلاني وليثبتوا صدقهما ارتضى عدّائي قرطاجة ان يدفنا احياء ، وقد اقام القرطاجيون لهما مذبحبين في المكان الذي مات فيه الاخوان رمزا لتضحيتهما من اجل وطنهما ، هذا المكان الذي اصبح يمثل الحد الفاصل بين الاغريق والقرطاجيين وعرف باسم (Arae Philaenorum).

هذه الرواية التي حكاها المؤرخ الروماني سالوست في الفقرة 79 من كتابه حرب يوغرطا (Bellum Iugurthinum) في اواخر القرن الاول ق.م. ثم رددها المؤرخ فاليروس مكسيموس في القرن الميلادي الاول في الكتاب الخامس من موسوعته Factorum ac dictorum memorabilium ( الفصل 6 ، فقرة 4) الذي اتهم عدّائي قرطاجة بالمكر والخداع اذ انهم خرجوا قبل الوقت المتفق عليه لكسب مسافة اطول في السباق ، غير ان الجغرافي الروماني سولينوس (فصل 27 فقرة 8) في القرن الثالث الميلادي يشكك في صحة هذه الحكاية وينسب حبكها الى اغريق كيريني.

وعلى الرغم من هذا فان بعض المؤرخين والجغرافيين منذ القرن الرابع ق.م. يشيروا الى وجود موقع على ساحل خليج سرت يحمل اسم فيلاني ، حيث يذكر سكيلاكس مذبح او مذابح الاخوين فيلاني ، وهذا ما اكده المؤرخ بوليبيوس (الكتاب الثالث 39 ،x .40) في القرن الثاني ق.م. كما ان استرابون في جغرافيته (الكتاب الثالث) اشار الى ان المذبح قد اختفى اي انه غير موجود في عصره ( 66 ق.م. – 21 م) كما ان بومبينيوس ميلا (الكتاب الاول فصل 7 ) ذكر هذا الموقع في القرن الاول الميلادي ، ويشير بليني الاكبر (الكتاب الخامس فصل 4) ان المذبح كان من الرمل اي كأنه ظاهرة طبيعية ، اما الجغرافي بطليموس فقد ذكره باسم قرية فيلاني في القرن الثاني الميلادي ، والاشارات السابقة تعطي انطباع مؤكد بوجود موقع اغريقي يحمل تسمية فيلاني ، استمدت منه حكاية او بالاحرى اسطورة الاخوين فيلاني.

ولقد تمكن الاستاذ ريتشارد جودتشايلد منذ بداية خمسينيات القرن العشرين من التعرف على هذا الموقع على ساحل خليج سرت ، وذلك استنادا لما يذكره بعض الجغرافيين القدامى وخطط السير (دليل الطرق الانطونية وخريطة بوتينجر) من مسافات تفصل بين مذبح الاخوين فيلاني والمواقع الاثرية المجاورة له وامكن تحديدها بالفعل على ارض الواقع استنادا للمسح الاثري الذي عمله جودتشايلد عام 1950 وما كتبه الايطالي شيراتا قبله عام 1938 عن مواقع منطقة سرت الاثرية، والواقع ان جودتشايلد قد حدد موقع مرسى مذبح الاخوين فيلاني مطابقا لمنطقة تعرف باسم الرأس العالي التي بها مرسى صغير استعمله الايطاليون وهو يطابق وصف كتاب مسافات البحر الكبير (ستاديايسموس) بان المكان مرسى جيد به ماء ، وقد يكون المقصود بالماء بئر ام الغرانيق ، اما قرية فيلاني التي ذكرها بطليموس فهي تطابق آثار قرارة قصر التراب التي يحوي بعض المعالم الاثرية منها معبدا للمؤله آمون ، واربع اعمدة كانت تعلوها تماثيل برونزية لاربعة اباطرة رومان (دوقلديانوس ، ماكسميان ، قسطانطانوس ، فاليروس) حيث كانت هذه الاعمدة التذكارية بمثابة الحد الغربي لاقليم كيرينايكي في العصر الروماني ، ومن ثم فان مذبح الاخوين فيلاني يقع الى الغرب من العقيلة و غرب مدينة بنغازي بـ 290 كيلومترا، وهذا ما توصل اليه الاثري الانجليزي جودتشايلد عام 1950 وايده في رأيه الايطالي ستوكي عام 1975 والبرفسور الفرنسي اندريه لاروند 1987، غير ان ستوكي قد اخذ برأي كورتيوس دون ان يشير اليه (كورتيوس هو الذي حقق كتاب سالوست عام 1724 ) ورأي الاخير مفاده ان حكاية الاخوين فيلاني اسطورة ليس لها اساس من الصحة وان شكل مرتفعي الجبل العالي المتشابهان في الشكل هي التي دفعت السكان الى الاعتقاد ان شكل التلين المرتفعان عن بقية الارض المستوية ليس ظاهرة طبيعية بل هما عمل انساني حاول السكان ايجاد تفسير له فتوصلوا الى حبك اسطورة الاخوين فيلاني ، اي ان الاسطورة استلهمت من غرابة المكان وشكله الذي اوحى بابتكار قصة غريبة.

وهذه الاسطورة كانت في ذهن الايطاليين الذين حددوا موقع مذبح الاخوين فيلاني خطأ في منطقة رأس لانوف وليس هذا فحسب بل انهم عندما اكملوا مد الطريق الساحلي المعبد عام 1937 امرهم الحاكم الايطالي لليبيا بالبو ببناء قوسا يخلد ذكرى انهاء ذلك الطريق في الموقع الذي حددوه بانه مكان دفن الاخوين فيلاني ، وقد عمل لهما تمثالان ضخمان من البرونز (بطول 5 امتار تقريبا ) زين بهما القوس ، وبني لهما ضريح من الحجر الرملي اشير انه مكان دفن الاخوين فيلاني نقش عليه ما ذكره سالوست عن تضحيتهما ، وقد هدم هذا القوس عام 1973 لانه اتخذ رمزا للتفريق بين شرق ليبيا وغربها. ويعرض حاليا التمثالان في ساحة متحف مدينة سرت القديمة الواقعة شرق مدينة سرت الحديثة بـ 50 كم.

ومن ناحية اخرى فانه من المؤكد انه كان هناك صراعا بين الاغريق والقرطاجيين حول التوسع على الشاطيئ الليبي وتحديدا للهيمنة على منطقة خليج سرت فهي مركز مهم من اجل السيطرة على تجارة الصحراء ، كما انه مركز استراتيجي لتأمين حدودهما ، فالقرطاجيين كانوا راغبين في ابعاد الاغريق مسافة كبيرة عن مستعمراتهم في منطقة طرابلس وتأمين مدينة لبدة الاقرب الى خليج سرت ، كما ان اغريق كيريني تطلعوا للسيطرة على تلك المنطقة بعد ان تعزز مركزهم الاقتصادي في القرن الرابع ق.م.لتأمين تجارتهم مع الصحراء. ومن الصعب تصور وجود حدود ثابتة بين القوتين ولكن هذه الحدود قد تكون متحركة بسبب افتقار تلك المنطقة للمميزات الاستراتيجية والمعالم البارزة الطبيعية او الحضرية.

اما من حيث الطريقة الغريبة التي استعملت لتحديد الحدود عن طريق عدّائيين فقد استعملت في تحديد الحدود بين مدينتي لامبساكوس وباريون (في اسيا الصغري/ تركيا) وفقا لما يذكره المؤرخ الاغريقي خارون اللامبساكي الذي عاش في القرن الخامس ق.م.

وفي الختام تجدر الاشارة الى انه لم توجد معالم مهمة في تلك المناطق التي اشار اليها جودتشايلد و ستوكي ، كما انه لم يعثر على مكان دفن الاخوين فيلاني المزعوم، وهذا ادى الى صعوبة تصديق او قبول رواية سالوست الاسطورية التي ربما كان لها اساسا تاريخيا مجهولا حتى الان.