الثلاثاء، 3 أبريل 2012

من ينقب عن الآثار في ليبيا ؟ أ. خالد محمد الهدار

إن ما يشاهده الزائر للمدن الأثرية في ليبيا مثل شحات وطلميثة ولبدة وصبراتة قد لا يخطر على باله إن معالم تلك المدن الماثلة للعيان لم تكن تبدو كذلك قبل الحفريات التي أجريت بعد الاحتلال الايطالي لليبيا عام 1911 والتي صاحبها أعمال ترميم أبرزت المعالم الكلاسيكية و لاسيما الرومانية منها لأهداف سياسية وترسيخ فكرة الرومنة والربط بين سيطرة الرومان على ليبيا قديما بالاستعمار الايطالي الحديث، وانطلاقا من هذا فإن الفضل في التنقيب عن الآثار في ليبيا يرجع إلى الايطاليين ، فهم من وضع الأساس لمصلحة الآثار وتنظيم الإشراف على العمل الأثري في المواقع الأثرية وإقامة المتاحف ، لكن ما فعله الايطاليون في هذا المجال كانت له إرهاصات أولى تمثلت فيما قام به القناصل الأجانب والرحالة من أعمال ساعدت على التعرف على المدن الأثرية التي كانت مجهولة، وفي هذا المقام يشار إلى القنصل الفرنسي لو مير الذي يعد أول أوربي يزور شحات عام 1705-1706 وزار قبلها لبدة، وهناك القنصل البريطاني وارنجتون الذي أرسل أول بعثة للتنقيب في شحات عام 1826 ، كما إن جهود الرحالة ديلا شيلا عام 1817 والأخوين بيتشي ما بين 1821-1822 و باشو مابين عام 1824-1825 كانت لها أصداء كبيرة ودفعت الكثير إلى استهداف زيارة المواقع الأثرية الليبية للحفر بها مثلما فعل القنصل الفرنسي دو بورفيّل عام 1847 ثم سميث و بورتشر ما بين 1860-1861 ثم جورج دينس ما بين 1864-1868، وقد نتج عن الأعمال الأخيرة استخراج كميات كبيرة من المقتنيات الأثري ونقلها إلى متاحف أوروبة ، والكشف عن أساسات الكثير من المباني بطريقة اقل ما توصف إنها غير علمية. وهكذا كان الحال حتى عام 1910 الذي يمثل وصول أول بعثة علمية أمريكية برئاسة نورتون للتنقيب في شحات،وأثناء الاحتلال الايطالي لم يسمح الايطاليون لغيرهم بالتنقيب عن الآثار بل هم كانوا سادة الموقف ونظموا شؤون الآثار حتى عام 1943 ، ثم أديرت المصلحة بالانجليز والايطاليين في فترة الإدارة العسكرية البريطانية. وبعد استقلال ليبيا استعين بالأجانب أيضا في إدارة شؤون الآثار وخير مثال على ذلك الايطالي كافاريللي في المنطقة الغربية ما بين 1952-1961 و جودتشايلد ما بين 1953-1967.

و قد لاحظ جوتشايلد ضخامة العمل الذي يجب أن يجرى في آثار المنطقة الشرقية وكانت إدارته غير قادرة على ذلك فاستعان بالبعثات الأجنبية للتنقيب في ليبيا وفعل كافاريللي الشيء ذاته في المنطقة الغربية ، وفي المنطقة الاخيرة بدأت كينون حفرياتها في صبراتة عام 1948 ، إضافة الى ماكبرني ومسوحه وحفرياته في آثار ما قبل التاريخ في ليبيا، وهناك البعثة الفرنسية التي بدأت منذ عام 1953 و الايطالية منذ عام 1957 ومنذئذ احتكرت البعثات التنقيب عن الآثار، حيث تعددت البعثات الايطالية في تخصصات مختلفة من ما قبل التاريخ إلى الآثار الإسلامية ، وعملت البعثة الفرنسية منذ عام 1976 ما بين سوسة ولاثرون ولبدة وسرت الإسلامية ومشروع وديان المنطقة الوسطى،وهناك البعثة الأمريكية في شحات منذ عام 1969، والبولندية في طلميثة ، واليابانية في توكرة ، وعدة بعثات ألمانية في لبدة وطلميثة وفي الصحراء ، وجمعية الدراسات الليبية في لندن وعملها في يوسبريدس وبيرنيكي وطلميثة والمرج ومشروع مسح الأودية الليبية ، وهوا افطيح ، وفي فزان ثم في غدامس. ومن هنا فان البعثات الأجنبية هي من تنقب عن الآثار ولها اليد الطولى في هذا المجال وتنافست فيما بينها للاستحواذ على اكبر قدر من المواقع الأثرية ، ولعل مرد هذا أن مصلحة الآثار لم تنظم أعمال التنقيب بل سارت على خطى السابقين في تمكين البعثات من العمل الأثري في ليبيا وكأن المصلحة ألقت بعبء التنقيب عن كاهلها لتسلمه لتلك البعثات ، ولكن هذا لا يعني إن باحثي المصلحة وخبرائها لم يسهموا في الكشف عن الآثار حيث جلهم قد شارك مع البعثات في حفرياتها، كما أنهم قادوا أعمال الكشف لاسيما في المقابر التي تظهر بالمصادفة، وما يعاب عن غالبية تلك الأعمال إنها لم تستكمل بعمل دراسات عنها ثم نشرها ، وغالبا ما أنتجه أولئك المنقبون يذهب لقمة سائغة لأعضاء البعثات الأجنبية لدراسته ونشره بلغاتهم (مقابر لبدة وسوسة مثلا)، والواقع كنا نتمنى أن لا يحدث هذا وأن يستكمل المنقبين أعمالهم بدراسة اكتشافاتهم وجلهم قادرين على ذلك. وغالبية أولئك الباحثين هم نتاج أقسام الآثار بالجامعات الليبية التي تعلموا فيها التنقيب عن طريق الحفريات التدريبية التي بدأها قسم الآثار بالجامعة الليبية منذ عام 1971 في مدينة توكرة والتي لا تزال مستمرة ، وقد نجحت تلك الحفريات بمشرفيها في تدريب الطلاب على التنقيب. وخلاصة القول نحن في حاجة إلى خطة علمية مدروسة من اجل تكوين فرق علمية ليبية للتنقيب عن الآثار وتشجيع العنصر الوطني مع الاستفادة من العناصر الأجنبية ولكن تحت مظلة ليبية، فلماذا لا يتم تكوين بعثات تنقيب ليبية يستعان فيها ببعض الخبراء الأجانب وليس خلاف ذلك.

بين معالم مدينة توكرة الاثرية (نشرت في صحيفة افاق اثرية)


بين معالم مدينة توكرة الأثرية وتاريخها

الجزء الاول

أ‌. خالد محمد الهدار

إلى الشمال الشرقي من مدينة بنغازي و بمسافة تقدر بحوالي 70 كم تقع مدينة او بلدة العقورية التي يحتضن شاطئها بقايا مدينة توكرة الأثرية او تاوخيرا حسبما كانت تعرف قديما ، هذه المدينة التي اشتهرت إلى جانب أخواتها من المدن الأخرى (كيريني= شحات، وابوللونيا=سوسة، وبرقة=المرج، وبطوليمايس=طلميثة، ويوسبريدس=بنغازي) التي استوطن بها الإغريق بمساعدة الليبيين في الجزء الشمالي الشرقي من ليبيا الذي كان يعرف قديما باسم كيرينايكي (قورينائية) وذلك منذ أواخر القرن السابع و أوائل القرن السادس ق.م. ثم أعقبهم الرومان و البيزنطيين على الاستيطان بها و تسيير دفة حكمها بعد أن حُرِمَ منها أصحاب الأرض الأصليين(الليبيين) ، وهذه الجولة ستأخذ القارئ بين أطلال هذه المدينة بحيث يتعرف على أهم معالمها وجزء من تاريخها القديم .

و في البدء تجدر الإشارة إلى أن الموقع الذي أسست فيه هذه المدينة يملك من المقومات الطبيعية المناسبة التي جعلت الإنسان يتخذ توكرة مقرا لسكناه منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحاضر فهي تقع في سهل ساحلي منبسط ـ سهل بنغازي ـ بتربته الجيدة وأمطاره المناسبة و التي مكنت السكان من الاستيطان معتمدين في معيشتهم على الزراعة والرعي وغيرها ، إضافة إلى البحر الذي يمكن استغلاله للاتصال بالعالم الخارجي ، وهذا أدى لاستيطان الإغريق بها . وانطلاقاً من هذه المقومات فلا غرابة أن يستوطن الإنسان هذه المنطقة في عصور ما قبل التاريخ حيث عثر على بعض الأدوات الحجرية التي كان يستعملها ذلك الإنسان منها سبعة فؤوس يدوية في شكل ملتقطات سطحية ، تعود إلى العصر الحجري القديم الأسفل ، وتعكس وجود استيطان أشولي متأخر بها ، إضافة إلى العثور على عدد كبير من الأدوات الحجرية في وادي سلايب قرب توكرة ، كما أن موقع توكرة قرب وادي زازا ـ الذي كشف به عن كهفين بهما نقوش صخرية يرجع أقدمها للحضارة القفصية ، وأحدثها تعود لفترة الحصان ـ مما يرجح إن الإنسان قد استمر في الاستيطان في المنطقة بما فيها توكرة خلال العصر الحجري الحديث ووصولا إلى العصور التاريخية ، ويقف دليلا على ذلك ان توكرة ربما كانت مقرا لقبيلة البكن إحدى بطون قبيلة الليبو التي حاولت الاستيطان في مصر في عهد رمسيس الثالث ، هذه القبيلة التي ذكرها المؤرخ الإغريقي هيرودوتوس (425 – 484 ق.م) باسم قبيلة البكاليس وان موطنها كان قرب تاوخيرا (توكرة) ، وهي ذات القبيلة التي وجدها بعض سكان الجزر الإغريقية (السيكلاديس مثلا) عندما هاجروا من موطنهم لتأسيس مستوطنة لهم في هذه المنطقة ولعل البكاليس هم وراء استقرار الإغريق بهذه المدينة بمساعدتهم اياهم ووقوفهم إلى جانبهم في تأسيس تاوخيرا في الربع الأخير من القرن السابع ق.م. (حوالي 620 ق.م.) التي ربما كانت تعرف بهذا الاسم قبل مجيء الإغريق أنفسهم فالتسمية يبدو إنها ذات ملامح ليبية واضحة.

وبسبب تواصل الاستيطان واستقرار الإنسان على موقع توكرة منذ ذلك الحين إلى القرن العاشر الميلادي تقريبا ، فانه لا يتوقع الكشف عن المستوطنة المبكرة بالكامل اي على مبانيها و معالمها التي يبدو أنها كانت بسيطة ومتواضعة انطلاقاً من مكانة هذه المدينة بين مدن الإقليم الأخرى ، ولهذا لم تكشف معاول الأثريين ـ وان كانت قليلة ـ على معالم واضحة ترجع إلى تلك الفترة التاريخية ما خلا بعض البقايا الأثرية التي تنسب إلى حرم ديميتر و بيرسفوني على شاطيء البحر ، وجزء من بقايا أسوار تنسب إلى المستوطنة المبكرة وهذا قليل من التفصيل عنها:

حرم ديميتر و بيرسفوني وبقايا اسوار المستوطنة :

للأسف لم تكشف البعثة الأثرية التي ترأسها جون بوردمان التابعة للمدرسة البريطانية في أثينا (BSA) خلال الأعوام 1963 – 1965 الا بعض بقايا هذا الحرم والمتمثلة في بعض الأساسات المبكرة التي ربما تحوز مستودعات كانت تابعة لهذا الحرم او المعبد الذي نسب إلى المؤلهة ديميتر (مؤلهة الزراعة) و ابنتها بيرسفوني من خلال التميثيلات الطينية التي عثر عليها في الحفريات و التي تنسب إلى المؤلهتين ، وطبيعي أن تعبد هاتين المؤلهتين في توكرة لارتباط الأولى بالزراعة التي هي عماد معيشة السكان الذين هم في حاجة لتقديم القرابين لهذه المؤلهة لتبارك محاصيلهم ومنتوجاتهم الزراعية والرعوية ، التي كانت تقدم عينات منها لكهنة المعبد في شكل جزء من محاصيلهم موضوعة في اوانٍ فخارية مختلفة الأشكال حيث عثر على كميات كبيرة من الأواني الفخارية في تلك الحفريات ترجع إلى تاريخ مبكر و عن طريقها أمكن معرفة التاريخ الفعلي لوصول الإغريق لهذه المنطقة ، ومعرفة أصول أولئك السكان لان غالبية ذلك الفخار جلب من أماكن مختلفة من بلاد الإغريق بعضه يرتبط بالتجارة (الفخار الكورنثي و الاتيكي و الرودي و غيره) و بعضه يرتبط بأصول المستوطنين مثل فخار بعض الجزر (مثل جزر السيكلاديس) ، عموما ان الفخار الذي يمكن مشاهدة بعضه في المتحف يعد من أهم المجموعات الفخارية المبكرة التي عثر عليها في ليبيا ، ومن خلال دراسته ودراسة أنواع أخرى من الفخار و لقى أخرى عثر عليها في الحرم اتضح إن هذا الحرم استمر في الاستخدام حتى ظهور المسيحية في القرن الرابع الميلادي ، ولعله استخدم حتى القرن السابع الميلادي بعد أن غيرت وظيفته وأصبحت متناسبة مع معتقد السكان الذين تحولوا من الوثنية إلى المسيحية.

أما بقايا الأسوار المبكرة التي كشف عنها بجانب البحر فيرجع الفضل في الكشف عن بعض بقاياها إلى الحفريات السابقة إضافة إلى ان العواصف و التعرية البحرية أدت إلى الكشف عن بقايا أخرى من السور و ذلك إلى الشرق من حرم ديميتر حيث بلغ امتدادها حوالي 15 متراً وقد بني السور وأساساته من كتل حجرية مشذبة و غير مشذبة إضافة إلى صفوف من القرميد من المؤكد انها استعملت في تشييد جدار السور وليس في أساساته ، و يبدو أن هذا السور كان مدعماً بابراج للمراقبة ، وهذه المساحة التي تحصرها الأسوار ليست بالمساحة الكبيرة التي يمكن ان يتصور انها تحصر مدينة كبيرة بل يبدو انها كانت تحصر مستوطنة صغيرة متناسبة مع عدد السكان الذين هاجروا إليها في تلك الفترة والتي تطورت بعد تزايد هجرة الإغريق إلى ليبيا او هيمنة بعض المدن الكبيرة مثل برقة (المرج) و كيريني (قوريني = شحات) عليها.

و لم يتوصل المنقبون و لا دارسي المدينة حتى الآن ـ في ظل قلة التنقيبات بها ـ لمعرفة متى حدث تطور المستوطنة المبكرة إلى مدينة واضحة المعالم و التي تظهر للعيان حاليا بأسوارها ومخططها ، و اذا كانت الحفريات و لا دراسة المخطط لم تفِد في هذا الصدد فان تاريخ المدينة بَخِلَ هو الآخر بمد يد العون للدارس ، فهي قد استقلت على هيمنة كيريني و تحالفت مع برقة في القرن الخامس ق.م. بعد سقوط حكم أسرة باتوس او الملكية في عام 440 ق.م. ثم هيمنة الأخيرة عليها إلى ان افلحت كيريني إلى اعادة سيطرتها على الإقليم بالكامل في القرن الرابع ق.م. ولم يستمر هذا طويلا إلى ان جاء المغامر الاسبرطي ثيبرون للاستيلاء على كيرينايكي عام 324 ق.م. ، و قد حاصر هذا المغامر مدينة تاوخيرا (توكرة) لاتخاذها قاعدة عسكرية له لكن الليبيين تمكنوا من القبض عليه و تسليمه لحاكم توكرة آنذاك المدعو ابكيديس الذي جاء في معية حملة اوفيلاس التي ارسلها بطليموس الاول حاكم مصر بعد ان استنجد به بعض سكان الإقليم ، وقد افلحت الحملة في ضم كيرينايكي إلى حكم البطالمة في مصر عام 322 ق.م.

و للاسف فان بقايا المدينة التي ترجع إلى القرنين الخامس و الرابع ق.م. هي قليلة غير انه يمكن الاشارة إلى ان استمرار حرم ديميتر في الاستعمال من قبل سكان المدينة ، إضافة إلى انهم كانوا يدفنون موتاهم في قبور فردية نحتوها او حفروها في الارض الصخرية أعلى سفوح المحاجر التي كانت تقطع حجارتها لبناء المدينة ، و قد وضعوا إلى جانب موتاهم بعض الاثاث الجنائزي المتمثل في اوانٍ فخارية وغيرها معتقدين انهم ربما يحتاجونها في حياتهم الاخروية ، من اهمها العثور على ستة كؤوس اعياد اثينية (باناثينية) ـ تعرض حالياً في المتحف البريطاني ـ ربما فاز بها بعض شباب توكرة لان تلك الكؤوس كانت تمنح في اثينا للشباب الذين يتفوقون في بعض الالعاب الرياضية ، كما انها ربما جلبت لغرض التجارة لحمولتها من زيت الزيتون .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولعل من الاحداث المهمة في تاريخ المدينة في عصر البطالمة هي تسمية المدينة باسم ارسينوي بدلاً من اسمها القديم اي تاوخيرا ، تكريما من بطليموس الثاني او الثالث للملكة ارسينوي الثانية ، و لكن بعد ان اهتم بالمدينة وتم تطويرها من حيث الاهتمام بمينائها و إعادة تخطيطها و تحصينها و بناء بعض المباني المهمة فيها التي لعل ابرزها الاسوار و الجمنازيوم والتي ليست من السهل نسبتها إلى تاريخ محدد ولكن يظل عصر البطالمة بصورة عامة هو تاريخ بناء هذه المباني التي شهدت الكثير من التطور لا سيما في العصر البيزنطي و تحديدا في عصر الامبراطور جستنيان (527-565 م) و يمكن اعطاء لمحة عن الاسوار لانها لا تزال من المعالم المهمة الماثلة للعيان إضافة إلى الجمنازيوم:

تحصينات المدينة و بواباتها :

على الرغم من اسوار المدينة وتحصيناتها كانت اهم ما لفت انتباه الرحالة الاجانب الذين زاروا المدينة في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر امثال جيمس بروس والاخوان بيتشي ، و باشو ، و بارث وهاملتون وغيرهم ، الا انها لم تعد كذلك حالياً بسبب كثرة المباني و المزارع المحيطة بها ، كما تعرضت بعض حجارتها للسلب لاعادة استغلالها من قبل الاهالي في بعض شؤونهم .

وعند النظر إلى الواقع الحالي لتلك الاسوار فانها تحيط بالمدينة من ثلاث جهات (الشرقية و الغربية والجنوبية ) ويبدو انها كانت ممتدة ايضا من الناحية الشمالية ، وتتمثل الاسوار في جدار او حاجز سميك يمتد محيطا بالمدينة لاكثر من كيلومترين ، و يتفاوت سمكه ما بين 140 إلى 215 سم بمتوسط عام 180 سم ، ويصل اقصى ارتفاع له 280 سم ، وهذا الجدار او السور مدعم بابراج مستطيلة الشكل في الغالب ، عددها يقرب من 30 برجا تبرز عنه بمتوسط عام 7 امتار ، ومتوسط المسافة بين جميع الابراج 44 متراً ، ومتوسط ابعاد تلك الابراج 7× 8.5 متراً ، وتوجد داخل كل برج حجرة متوسط ابعادها 4.30 × 3.25 متراً ، ويشغل البرج مساحة تقدر بـ 60 متراً مربعا ، و الكثير من هذه الابراج اضيف للاسوار ضمن اصلاحات جستنيان التي اخبرنا عنها المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس (500-560 م)، كما تتخلل هذا السور ثلاث بوابات : البوابة الشرقية ، البوابة الغربية ، البوابة الجنوبية ، وقد اقفلت البوابة الاخيرة حيث حوّلت إلى برج في العصر البيزنطي مزوداً بمدخل معقود ، اما البوابة الشرقية فيبدو انها كانت البوابة الرئيسة بالمدينة لارتباطها بالطريق الرابط بين توكرة و طلميثة والممتد لمسافة 40 كم تقريباً ، ويحيط حالياً بالبوابة برجان خماسيي الاضلاع ربما لم يكنا كذلك عند بناء الاسوار لاول مرة في العصر الهلينيستي ، وقد تعرضت البوابة للتعديلات عندما تجمع البيزنطيين بالمدينة مدافعين عنها ضد الفاتحين المسلمين بحيث لم يعد بالامكان دخول العربات منها ، وقد ربط الشارع العرضي (الديكومانوس) ما بين هذه البوابة والبوابة الأخرى المقابلة لها اي البوابة الغربية التي لا تختلف عن البوابة الشرقية الا انها لم تجرَ بها تعديلات كالاتي اجريت على البوابة الاخيرة حيث تركت لتسمح بمرور العربات باتجاه مدينة بيرنيكي (بنغازي) اي انها كانت منفذ للهرب في حالة سقوط المدينة . كما ان ما يلفت الانتباه في تلك التحصينات ذلك السور الخارجي (بروتيخيزما) الذي يتقدم السور الاصلي ، وهو من الظواهر المميزة في تحصينات توكرة و لم يوجد الا بها دون سائر مدن الإقليم الأخرى ، وللاسف لم توجد الا بعض بقاياها حيث يبدو ان الفاتحين المسلمين قاموا بتدميره بعد الاستيلاء على المدينة ما بين عام 642-645 م ، او انه دمر بسبب استعمال المنطقة المحيطة بالاسوار في الزراعة.

الجمنازيوم :

يصادف الزائر عند الدخول من البوابة الشرقية للمدينة من ناحية اليسار جدار يمتد مسافة 75 متراً بمحاذاة الشارع العرضي الرئيسي (الديكومانوس) من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي ويبلغ ارتفاعه 163 سم و لم يتبقَ منه الا ستة صفوف، وقد استغل الصفان الخامس و السادس في نقش اسماء الشباب الفائزين في المنافسات الرياضية و قد وضعت تلك النقوش الشبابية (الايفيبية ) داخل اكاليل او إطارات نباتية ، الا ان غالبيتها مطموس حاليا و لم تكن كذلك عندما نسخها الرحالة باشو ما بين عامي 1824 -1825 ، كما انها جعلت جودتشايلد في عام 1965 يتعرف على ماهية هذا المبنى وانه جمنازيوم كانت تمارس فيه المنافسات الرياضية بين الشباب ، كما انهم كان يؤمونه لاكتساب بعض المعارف اي انه كان مؤسسة تؤهلهم بدنياً وعقلياً ، كما يبدو ان ذلك الجدار كان يزين إلى جانب النقوش باكاليل حقيقية للفائزين او نحوت بارزة للاحتفاء بهم ، و للاسف فان اغلب التفاصيل الداخلية للمبنى قد دمرت في العصر البيزنطي وبنيت داخله الحمامات البيزنطية الماثلة للعيان الان ويبدو ان الجمنازيوم كان عبارة عن ساحة مستطيلة او مربعة مكشوفة محاطة بالجدران من جميع الجهات ومن المحتمل انه كان يتقدمها رواق محمول على اعمدة او دعامات تطوق الساحة المكشوفة ،هذا هو الشكل الانموذجي للجمنازيوم سواء في الإقليم ام في العالم الإغريقي ، وربما ينطبق هذا على جمنازيوم توكرة الذي لم يبقَ منه الا الساحة المكشوفة الذي بنيت في جزء منها الحمامات البيزنطية ، إضافة إلى الجدار الشمالي الغربي للجمنازيوم الذي يحوي المدخل الرئيسي للمبنى ، كما استغل جزء من سور المدينة ( حوالي 58 متراً ) جداراً للجمنازيوم من الناحية الشمالية الشرقية ، وقد نقشت على احجاره مجموعة كبيرة من اسماء الشباب الذي دخلوا هذا الجمنازيوم لممارسة الرياضة او مشاهدة المنافسات الرياضية وكان من بينهم شباب ليبيين استدل عليهم من اسمائهم التي وجدت منقوشة على ذلك الجدار.

وفي الختام يرجح ان الجمنازيوم قد بُني في اواخر القرن الثالث ق.م.أو بعده في القرن الثاني ق.م.لاسيما انه يرتبط ارتباطا كبيرا ببناء الأسوار ، ويرجح انه بني في منتصف القرن الاخير في عهد بطليموس الصغير عندما كان حاكماً او ملكاً على الإقليم ، و سيظل هذا مجرد تخمين والفيصل هو إجراء حفريات في ذلك الجمنازيوم اما الاعتماد على النقوش فان اقدمها يرجع للقرن الثاني ق.م.وهي قلة ، الا ان غالبيتها تؤرخ بأواخر القرن الأول ق.م. والقرن الأول الميلادي ، وهذا قد يؤكد ازدهار الجمنازيوم في العصر الروماني ، لكنه انهار بسبب شغب إليهود (115-117 م) وانتهى بعد الاعتراف بالمسيحية في القرن الرابع الميلادي ، كما استغلت احجاره في بناء تلك الحمامات والحصن البيزينطي في القرنين السادس و السابع الميلاديين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبالعودة إلى سرد بعض احداث تاريخ توكرة فانها قبل ان تنعم وسائر مدن الإقليم الأخرى بالسلام في عصر الامبراطور اغسطس (27 ق.م.- 14 م) شهدت الكثير من الفوضى والقلاقل السياسية التي نتجت عن التدهور الذي مر به الإقليم بعد توصية بطليموس ابيون بالإقليم للرومان بعد وفاته عام 96 ق.م. واهمال الرومان لتسيير شؤونه إضافة إلى الحرب الاهلية في القرن الاول ق.م. في الجمهورية الرومانية و مانتج عنها من قلاقل سياسية عمت الاقاليم الرومانية ومن بينها كيرينايكي ، وبدون الدخول في التفاصيل فان توكرة شهدت صراعاً مع القبائل الليبية التي تقطن إلى الجنوب منها ربما ردة فعل اولئك عن التوسع الإغريقي جنوباً و الاستيلاء على اراضيهم التي تمثل مصدر معيشتهم ، وقد افلحوا في حصار توكرة التي اصابتها المجاعة من وراء ذلك حتى نهض احد سكانها المدعو اليكسيماخوس بن سوسيستراتوس بالتبرع بالقمح من اجل اغاثة سكان مدينته هذا ما دل عليه نقش يرجح ان تأريخه مابين 96-46 ق.م يكرم ذلك المواطن على اعماله الخيرية. كما تعرضت توكرة اسوة بمدن الإقليم الأخرى إلى الاضطربات و القرصنة قبل عام 67 ق.م. ثم اضطرابات أخرى نتيجة للصراع الذي حدث بين يوليوس قيصر وبومبي ، ويبدو ان توكرة عرفت باسم كليوباتريس منذ عام 34 ق.م. نسبة إلى كليوباترا سيلينى ابنة انطونيوس و كليوباترا اللذين تحالفا ضد اوكتافيوس اغسطس الذي حسم الحرب إلى صالحه في معركة اكتيوم في 2/9/ 31 ق.م. التي أرخ بها سكان توكرة نقوشهم. ولاتوجد معلومات دقيقة تخص توكرة خلال حكم الاباطرة الرومان قبيل شغب إليهود ، وان كان هناك ازدهار بهذه المدينة نجم عن السلام الاغسطي فقد قضى عليه ذلك الشغب الذي احدثه إليهود بالإقليم ما بين 115 -117 م ، وبعد هذا الحدث المدمر مدت يد الاصلاح إلى توكرة حيث منحت مع كيريني صفة المستعمرة (Colonia) ومن ثم تحصل سكان توكرة على حقوق المواطنة الرومانية ، كما اعيد تخطيط المدينة و تنظيم مبانيها و اضيفت إليها بعض المباني لعل اهمها بازيلكا في عصر الامبراطور هادريان (117-138م) التي بنيت على انقاضها الكنيسة الشرقية ، ويمكن التعرض بشيئ من الشرح لتخطيط المدينة ومقابرها في العصر الروماني:

تخطيط المدينة :

و اذا كان مخطط المدينة الهلينيستي غير واضح حالياً الا انه يبدو ينحى نحو مخطط رقعة الشطرنج او المخطط الشبكي الذي ينقصه التناسق الهندسي الدقيق الذي امتاز به التخطيط الهيبودامي ، و يعتمد هذا المخطط على اربعة شوارع رئيسية متقاطعة يتفق الشارعان الرأسيان مع مخطط الميناء الاصطناعي مما يؤكد هلينيستية ذلك الميناء ، ومن المؤكد ان منتصف القرن الثاني الميلادي قد شهد ادخال تعديلات جوهرية على المخطط الهلينيستي حيث خططت المدينة وفقا لتخطيط المدن الرومانية - المعتمد على الشارع العرضي الرئيسي اي الديكومانوس ( Decomanus Maximus) ، والشارع الطولي الرئيسي اي الكاردو (Cardo Maximus) ، إضافة إلى شبكة الشوارع العرضية و الطولية الفرعية التي ترتبط مع بعضها ومع الشارعين الرئيسيين بالتعامد او التقاطع مكونة مساحات او جزيرات (Insulae) بنيت عليها مباني المدينة . ولعل من اهم شوارع المدينة الذي من الضروري الوقوف عنده قليلا هو الشارع العرضي الرئيسي (الديكومانوس) الذي يربط المدينة من الشرق إلى الغرب حيث يمتد باستقامة بين البوابتين الشرقية والغربية، و يعد هذا الشارع اطول شوارع المدينة واوسعها فهو يمتد لمسافة تقدر بحوالي 600 متراً و اقصى عرض له يتراوح ما بين 7.20 – 7.40 متراً ، ويوجد رصيف للمشاة على جانبي ذلك الشارع يرتفع عن مستوى أرضيته التي بلطت بلوحات حجرية ، كما كانت توجد نافورات مياه على جانب الشارع من الناحية الشمالية لاستعمالها من قبل المارة ، هناك بقايا واحدة قرب البوابة الغربية ، وأخرى قرب الحصن البيزنطي في شرق الديكومانوس ، ومما يلفت الانتباه في هذا الديكومانوس وجود مجرى تصريف مياه يمتد بموازاة الحصن البيزنطي و الجمنازيوم يتجه شرقا خارج البوابة الشرقية ، وبدوره يلتقي مع مجرى آخر يمتد من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي ربما ليحمل المياه نحو البحر. وتوجد بهذا الشارع بقايا معمارية يبدو انها تمثل قوس نصر يؤرخ ما بين 317 – 320 م تقريباً.

المقابر الرومانية :

يلاحظ الزائر إلى شرق المدينة الأثرية وغربها وجود 31 محجراً كانت تستعمل اصلا لقطع الحجارة التي بنيت بها مباني المدينة ، ثم استغل اغلبها في الدفن خلال العصر الروماني حيث نحتت في واجهاتها مقابر على شكل حجرات مزودة بتوابيت فردية وكوات (مشكاوات) ، وقد اصطلح على تسميتها بقبور الحجرات او المقابر الجماعية حيث كانت تخصص مقبرة لكل اسرة تدفن بها موتاها ، و يبدو ان بعض المقابر كانت مشاعا للدفن الجماعي لسكان المدينة بغض النظر عن انتمائهم لاسرة معينة ، وقد كان الميت يوضع على أرضية المقبرة مباشرة او في الحفر اي التوابيت التي تنحت على جوانب الحجرة إلى جانبه بعض الاثاث الجنائزي ، وبعد ان تتحلل جثته تجمع عظامه لتوضع في الكوات المنحوتة في الجدران او توضع في جرار كبيرة توضع على الأرضية او في اركان الحجرة، وقد زودت غالبية تلك المقابر بنقوش إغريقية وقليل لاتينية كانت تنقش على واجهاتها و تحديدا أعلى مداخلها أو على جانبي تلك المداخل بعضها محصورا داخل اطار او واجهة مبنى اي قوصرة (بيدمنت)، وجرت العادة ان تحمل تلك النقوش سنة الوفاة (حرف إغريقي او اكثر يعبر عن عدد يسبقه حرف L الذي يعبر عن السنة ) ثم تاريخ الوفاة باليوم والشهر (وفقا للشهور المصرية القديمة) ، ثم اسم الشخص المتوفى متبوعاً باسم والده يليه عمر المتوفى مسبوقا بحرف ( L ) أو (etwn) بمعنى سنة ، وقد امكن من خلال تلك النقوش معرفة ان سكان توكرة من إغريق و رومان و ليبيين ويهود قد دفنوا بها ، وان اقدم استخدام لها في أواخر القرن الأول ق.م. و استمرت خلال القرون الميلادية الثلاثة وتبين هذا الاستخدام ايضا من خلال الاثاث الجنائزي الذي عُثِرَ عليه في تلك المقابر المتمثل في مجموعة من الاواني الفخارية و المصابيح والقارورات الزجاجية و غيرها من اللقى الأخرى ،و قد اعيد استخدام تلك المقابر في العصر البيزنطي و تحديدا في القرنين الخامس و السادس الميلاديين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبعد هذا الوصف لبعض المعالم يجدر التوقف قليلا للحديث عن احد ابرز الاحداث التي شهدتها المدينة في العصر الروماني اسوة بمدن الإقليم الأخرى الا وهو تغيير بعض سكان توكرة لديانتهم الوثنية مفضلين عنها المسيحية التي بدأت في الظهور في الإقليم في القرن الاول الميلادي ثم انتشارها به في القرن الثالث الميلادي حتى اصبحت الديانة الاكثر شيوعا به في القرن الرابع الميلادي و لاسيما عقب مرسوم ميلان عام 313 م الذي اعترف فيه الاباطرة الرومان بالمسيحية ، وقد تحولت توكرة آنذاك إلى مركز اسقفية في القرن الرابع و كان بها اسقف يدعى سكيندوس شارك في مجمع نيقيا الديني المنعقد في 20/5/325 م ، لكن هذا لايعني نهاية الوثنية بالمدينة التي من المؤكد قد انتهت واصبحت ديانة سكان توكرة كافة بعد اصدار الامبراطور ثيوديسيوس الأول مرسوماً ضد الوثنيين عام 392 م مُنعت بموجبه الوثنية في الامبراطورية ، ويبدو ان القرن الخامس كان عصر ازدهار المسيحية بتوكرة فقد شارك اسقفان منها في مجمع افيسوس الأول و الثاني ، وتفصيل ذلك ان اسقفها المدعو زينون شارك في مجمع افيسوس الأول المنعقد ما بين 22/6 إلى 31/7 من عام 431 م ، كما شارك اسقفها المدعو فوتينوس في مجمع افيسوس الثاني المنعقد عام 449 م و المعروف باسم مجمع اللصوص (Latrocinium) ، هذا من الناحية الوثائقية ولكن من الناحية المادية الأثرية لم يكشف بشكل مؤكد على اية معالم مسيحية ترجع إلى ذلك العصر ،الا انه يبدو ان معابد توكرة الوثنية التي كانت قائمة آنذاك مثل حرم ديميتر وبيرسفوني و معبد ليبرباتر (باخوس) ، ومعبد آمون ومعابد أخرى غير معروفة قد دمرت و لم يقم لها قائمة بعد ذلك وحلت محلها الكنائس المسيحية لاسيما بعد صدور قانون ثيوديسوس الثاني و فالنتنيان الثالث الصادر في 14/11/435 م الذي ينص على تدمير المعابد وعدم اقامة الشعائر الوثنية . ومما يجدر ذكره ان تغيير الوجه المعماري للمدينة الوثنية لم يقتصر على المباني الدينية بل وصل إلى المباني المدنية لا سيما تلك التي لم تعد تتفق مع العقيدة الجديدة ، وفي هذا الصدد فانه من المؤكد ان الجمنازيوم قد هجر ثم دمر عن قصد و استغلت احجاره في تشييد مباني أخرى ، إضافة إلى ان البازيليكا قد دمرت ثم حلت محلها الكنيسة الشرقية . وبنظرة عامة على المباني الدينية المسيحية بالمدينة فيلاحظ انه إلى جانب الكنيسة الشرقية توجد الكنيسة الغريبة إضافة إلى كنيسة خارج السور الغربي ، كما كانت توجد كنيسة أخرى خارج السور الجنوبي اختفت معالمها منذ زمن ، و ينبغي التنويه إلى ان كنائس توكرة اتسمت بالتواضع في مواد بنائها و تجهيزها فلم يستخدم فيها الرخام بشكل رئيسي و ان استخدم فهو منقول من مبانٍ أخرى مثل غالبية مواد البناء الأخرى التي بنيت منها تلك الكنائس ، كما زخرفت بعضها بأرضيات فسيفسائية مثل الكنيسة التي خارج السور الجنوبي و الكنيسة الشرقية التي يمكن وصفها على النحو التالي:

الكنيسة الشرقية:

تعد هذه الكنيسة مثالاً جيداً للمعمار المسيحي بالمدينة من حيث انها قد تكون اقدم كنيسة بتوكرة ، وكنيستها الرئيسة (كاتدرائية) كما انها اجريت بها حفريات وكشف عن معالمها على خلاف بقية الكنائس وذلك خلال الحفريات التي اجريت في بداية ستينيات القرن العشرين ، وهي تقع في القطاع الشمالي الشرقى من المدينة مجاورة للسور الشرقي الذي تبعد عنه مسافة 75 متراً ، وتتمثل هذه الكنيسة في مبنى مستطيل الشكل ابعاده 42.20 × 30.70 متراً تقريباً ، وهى من طراز الكنائس البازيلكية ثلاثية الاجنحة ( اى صحن وجناحان ) ، تقع حنيتها النصف دائرية فى الناحية الشمالية الشرقية ، وتحيط بها حجرتان جانبيتان غير منتظمتا الشكل وكانتا تفتحان على الحنية و على جناحي الكنيسة ايضا ، وقد كانتا تستخدمان لاغراض طقسية منها تخزين القرابين والكتب الدينية وملابس الكهنة وغيرها من الاشياء التي تستخدم في طقوس الصلاة او القداس ، وهما يرتبطان بحجرات صغيرة التي بدورها ترتبط بجناحي الكنيسة و اقسامها ، اما الصحن فهو مُقسم إلى ثلاثة اقسام (صحن وجناحان ) بواسطة صفين من الاعمدة الدورية التيجان و الاتيكية القواعد ، التي يبلغ عددها فى كل صف تسعة اعمدة ، ربما ترجع لمبنى البازيلكا الذي بنيت مكانه هذه الكنيسة ، ويلاحظ ان الكتل الحجرية التي نصبت عليها الاعمدة ربما كانت تمثل ساكف (ارشيتريف) من مبنى سابق ، نقش على احداها اختصار كلمة امبراطور (IMP) أسفل قاعدة العمود السابع ، ويلاحظ ان الجناحين قد بلطا بالواح من الحجر الرملي، ومن قبل بالفسيفساء ، إضافة إلى ان الجزء الغربي من الصحن كان مغطى بأرضية فسيفسائية بزخارف هندسية و مشاهد آدمية وحيوانية ضاعت او انها نقلت من مكانها منذ سنوات. ولا توجد اية بقايا واضحة من الساحة المقدسة التي كانت ممتدة من حاشية الحنية شرقاً حتى العمود السادس من اعمدة الصحن غرباً و انها كانت مفصولة عن الجناحين بستائر حجرية او خشبية تتخلل جزء من اعمدة الصحن ، ولم يعثر لا على بقايا المذبح و لا المنبر اللذين ربما كانا من الخشب. وتوجد فى النهاية الجنوبية الغربية من الكنيسة سقيفة ضيقة إلى حد ما بلطت بلوحات حجرية من الحجر الرملي مثل غالبية حجرات الكنيسة ، وتفتح السقيفة على الصحن بواسطة مدخل عريض وعلى الجناحين بمدخلين ضيقين . ويحتوي القطاع الشمالي الغربي للكنيسة على عدة حجرات لعل اهمها واكبرها حجرة مستطيلة الشكل ربما تمثل الفناء (اتريوم) وهي تفتح على الجناح الشمالي الشرقي مما قد يؤكد ارتباطها بداخل الكنيسة بدلا من خارجها ، ويحتوي هذا القطاع على حجرات منها حجرة بها درج عثر فيه على نقش إغريقي ينسب إلى الامبراطور هادريان معاد استخدامه في ذلك الدرج أو المنصة ، يشير إلى اهداء هذا الامبراطور بازيلكا إلى مدينة توكرة. اما اهم حجرات القطاع الجنوبي الشرقي من الكنيسة فهي الصالة التي يمكن الدخول إليها من الجناح الجنوبى الشرقي فقد قسمت إلى ثلاثة أقسام غير منتظمة بواسطة زوجين من الأعمدة بلطت بلوحات من الحجر الرملي و الجيري و الرخام ، ومن خلال الاهتمام بهذا الجزء يوحي انه ربما كان المكان الخاص بالاسقف اذ يوجد به ايضا مكان مخصص لكرسي او عرش الاسقف قرب منتصف الجدار الجنوبي الغربي كان مبلطاً بالرخام ، ويوجد في هذا القطاع مدخلان جانبيان يؤديان إلى الكنيسة ، إضافة إلى مدخل آخر يطل على شارع عرضي في الناحية الشمالية الغربية.

ويلاحظ ان تجهيزات هذه الكنيسة بسيطة فاعمدتها من الحجر الرملي وغالبية مواد بنائها وأرضيتها من المادة نفسها باستثناء وجود بقايا أرضية فسيفسائية فى الجناح الجنوبي الشرقي و الصحن ، و أرضية رخامية في الصالة ، كما استخدمت بها اعمدة رخامية مجلوبة من مبانٍ أخرى .اما عن تاريخها فيبدو انها قد بنيت في الاصل في القرن الخامس الميلادي قياساً على طرازها ، كما ادخلت عليها تعديلات في القرن السادس الميلادي منها قفل بعض المداخل ، وتعديل في بعض الحجرات و إضافة أرضية فسيفسائية وغيرها ، ومن ثم فان الشكل الحالي للكنيسة يمكن ان يؤرخ بالنصف الأول من القرن السادس أي إلى عصر الامبراطور جستنيان (527-565 م) ، مع وجود تعديلات لاحقة في زمن ليس من السهل تحديده.

تكملة المقال في العدد القادم.....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاثنين، 2 أبريل 2012


حفريات في حصن القريات الغربية 2009-2010

اشتهرت منطقة القريات الغربية التي تقع حوالي 280 كم للجنوب من طرابلس عند الأثريين بأنها موقع أحد الحصون الرومانية التي تشكل جزء من منطقة الحدود أو التخوم الطرابلسية (limes Tripoltanus) التي تمتد من غدامس مرورا بالقريات وصولا إلى بونجيم ، وفي هذه المراكز الدفاعية الثلاث أسس الإمبراطور سبتموس سفيروس وأبنائه حصون لتكون مقرا للجنود الرومان المدافعين عن منطقة المدن الثلاث من الناحية الجنوبية ، وإذا كان حصن ابونجيم (جولايا) قد شهد اهتماما كبيرا منذ السبعينيات وظهرت نتائج الحفريات التي أجريت به تباعا، غير أن حصن غدامس والقريات لم يشهدا اي اهتمام إلا في فترة متأخرة حيث بدأت جمعية الدراسات الليبية مشروعا لدراسة آثار غدامس مع مطلع عام 2011 ، أما حصن القريات فعلى الرغم من اهتمام جودتشايلد به منذ الخمسينيات ثم ديرك ويلسبي في بداية الثمانينات إلا إن الحفريات الفعلية لم تبدأ إلا ما بين 2009 -2010عن طريق بعثة ألمانية من المعهد الأثري للأقاليم الرومانية بجامعة ميونخ بإشراف الأستاذ ميشيل ماكونزين، وهذا التأخر بسبب موقعه الجغرافي الصعب ووجوده في منطقة خالية. لقد استعملت هذه البعثة تقنيات حديثة في أعمال الحفر والمسح الأثري وأعمال التوثيق المتنوعة توصلت على أثرها إلى بعض النتائج المهمة تعد إضافة إلى ما كتبه جودتشايلد ثم ولسبي.

ويمكن تقديم بعض المعلومات عن هذا الحصن الذي يعد اكبر حصون التخوم الطرابلسية إذ أن أبعاده 128 × 176 مترا ، وقد استغل خلال الفترة ما بين 201-238 م مقرا لحوالي 800 عسكري من الفيلق الاغسطي الثالث القادم من لامبيز في الجزائر ، وتأكد من العملة التي عثر عليها إن الحصن قد استمر استغلاله عسكريا حتى 275-280 م، و لا يختلف هذا الحصن عن الحصون الرومانية الأخرى من حيث التخطيط فهو مستطيل تحيط به الأسوار من جميع الجهات وتخترق هذه الأسوار أربع بوابات كل بوابة يحيط بها برجان يتواجد بها الجنود للحراسة والمراقبة والدفاع عن الحصن ، وللأسف فأن الكثير من معالم هذا الحصن من أسوار وأبراج قد انهارت بسبب العوامل الطبيعية وبسبب إقامة بعض الليبيين قريتهم في ذات المكان واستغلال أحجار الحصن لبناء مساكنهم الظاهرة بقاياها حتى الآن، وعلى الرغم من هذا فان بعض أبراج الحصن ما تزال باقية ترتفع فوق سطح الأرض بارتفاع حوالي 8.30 مترا، ولعل ابرز ما بقى من هذا الحصن بوابته الشرقية التي تعد المدخل الرئيسي والتي يحيط بها برجان خماسية الأضلاع ، وهي في عمومها لا تختلف عن مثيلتها في حصن لامبيز ، ويبدو إن البرج الجنوبي لهذه البوابة قبل تهدمه كان على ثلاث طوابق ويصل ارتفاعه إلى حوالي 12.50 مترا، وعند هذه البوابة عثر على قاعدة تمثال أعيد استخدامها وتحمل نقشا لاتينيا أشار إلى الفيلق الاغسطي المقيم بالحصن وأيضا إلى اسم قائد الحصن المدعو قائد المائة ايليوس كريسسنتيوس ، إضافة إلى ظهور ثلاثة حروف من الاسم الذي كان يعرف به هذا الحصن الذي يبدأ بـ ميد.. (MYD…) ، كما أشير النقش إلى إن التمثال كان مكرسا إلى جوليا مامايا بمناسبة ارتقاء ابنها الإمبراطور الروماني الاسكندر سفيروس للعرش في عام 222م. ومن ناحية أخرى من الصعب تتبع التفاصيل الداخلية لأجزاء الحصن بسبب وجود مساكن الليبيين التي بنيت ما بعد العصر البيزنطي والتي دمرت المباني التي توجد داخل الحصن إلا انه تم التعرف على مقرات الجنود التي اغلبها دمر أسفل المنازل المحلية التي بنيت أعلاها. وخارج الحصن اتضح من خلال المسح وجود محجر في الجهة الشمالية الشرقية من الحصن ، إضافة إلى وجود ثلاث معابد أعلى ثبة للشرق من المحجر السابق ، ومن خلال دراسة الفخار والعملة التي عثر عليها هناك اتضح إن منطقة المعابد والحصن أيضا استمر في الاستعمال مدنيا من 360 /380 إلى حوالي عام 540 م. و ربما عاد للحصن وظيفته العسكرية بعد غارات قبائل الاوسترياني في القرن الرابع حيث استقرت به وحدة عسكرية استمرت حتى حوالي منتصف القرن الخامس. كما انه يرجح إنه بعد عام 455 اي بعد سيطرة الوندال على الإقليم الطرابلسي (المدن الثلاث) كان الحصن مقرا لأحد شيوخ القبائل المحلية التي كانت تسيطر قبيلته وتراقب طريق القوافل المتجهة إلى فزان. والحفريات المستقبلية من المؤكد انه تضيف على هذا الحصن الروماني.