الاثنين، 22 سبتمبر 2008

حول الاثارالمنهوبة من مدينة شحات الاثرية







دور الرحالة والقناصل الأوربيون في سرقة آثار
مدينة قوريني في القرن التاسع عشر




تعد مدينة قوريني أو كيريني (شحات حاليا) من اشهر واهم المدن التي أسسها الإغريق في شرق ليبيا في حوالي عام 631 ق .م.فهي عاصمة الإقليم التي ازدهرت اقتصاديا وسياسيا و تبوأت مركزا مرموقا في العالم القديم خلال فترة طويلة من الزمن منذ تأسيسها مرورا بالعصر الهللينستي فالروماني فالبيزنطي ، وقد تعاقبت عليها الفترات التاريخية حتى أصبحت هذه المدينة عبارة عن أطلال طمرت بفعل الزمن وظلت هكذا قرونا عديدة الى ان كشف عن بقاياها وآثارها بواسطة الرحالة الأوربيون والهواة ومعاول الأثريين ، وقد نتج عن عملية الكشف تلك ان تعرضت آثار المدينة للسرقة والنهب المنظم من قبل الرحالة والقناصل الأوربيون الذين بدءوا يتوافدون على زيارتها منذ أوائل القرن الثامن عشر .
ولم تكن قوريني -في حقيقة الأمر- وغيرها من المدن الأثرية الأخرى في الإقليم معروفة للأوربيين قبل ارتياد الرحالة لها والكتابة عنها ، وتعد الزيارة التي قام بها الطبيب الإيطالي باولو ديلا شيلا عام 1917 الى مدن الإقليم الأثرية من أهم الزيارات التي قدمت الكثير من المعلومات الأثرية -لأول مرة - للأوربيين ، ودفعت الكثير من الرحالة للمجيء الى زيارة المدن الأثرية وعلى رأسها مدينة قوريني لنهب ثرواتها والعبث بآثارها ،كما ساهمت رحلة الأخوان بيشي عام 1822 ، ورحلة جان ريمون باشو عام1824- 1825 الى التأكيد على غنى المدن الأثرية -خاصة قوريني - بالمنحوتات والآثار ، من واقع ما جمعه الأخوان بيشي من تماثيل ولم يستطاعا نقلها او من الرسومات التي نفذها باشو ، وكانت دليلا لسارقي الآثار الأجانب في قوريني .
يقتضي الأمر قبل التعرف على جهود أولئك الرحالة التخريبية ان تذكر العوامل التي ساعدتهم على تحقيق ذلك ، وتمثلت في عدم اهتمام السلطة العثمانية او من يمثلها في ليبيا بالمدن الأثرية ، ليس هذا فحسب بل أخذت تساوم باثارها وتقوم بإهدائها الى الدول الأوربية ، ويبدو ان هذا الأمر قد شجع على إنشاء العديد من المكاتب القنصلية في بنغازي مثل مكتب القنصلية الإنجليزية والفرنسية لتمويل ودعم الرحالة بل أيضا المساهمة الفعلية في سرقة الآثار مثلما فعل نواب القناصل الإنجليز وود، و ويري ،و كروا ، ودينس ، و نائب القنصل الفرنسي دي بورفييل ، كما أدت حاجة المتاحف الأوربية _التي افتتحت حديثا_ الى التحف الأثرية ، وإقبال الأغنياء في أوربة على شراء تلك التحف أن شجع الرحالة والهواة على المجيء الى ليبيا والبحث في أطلال المدن الغنية بالآثار التي أهمها قوريني .
ويقتضي السياق التاريخي ان يذكر بدايةُُما قام به القنصل الإنجليزي العقيد هانمر وارنجتون الذي أرسل الي قوريني رحلتين الأولى في عام 1826 بإشراف أحد اتباعه وابنه فردريك ، والثانية في عام 1827 بإشراف ابنه الأصغر جورج من اجل جلب المنحوتات التي جمعها الأخوان بيشي في قوريني ، بعد ان أخذ موافقة الباشا واقنعه بانها ستكون هدية مناسبة منه الى المملكة البريطانية ، وقد افلحت الرحلتين في تحقيق النتائج المرجوة ، وتحصلوا من قوريني على مجموعة متنوعة من الاثار ليست التي جمعها الاخوان بيشي فحسب بل قام ابنه جورج بعمل حفريات في معبد ابوللو ،نتج عنها العثورعلى مجموعة من التماثيل الرخامية وشاهد قبر واناء فخاري مزخرف ، وقد وضعت تلك اللقى في خمس صناديق ارسلت الى اسكتلندا ، ومازالت تعرض في المتحف الملكي باستكلندا . وهذه اول اشياء تسرق من قوريني وتصل الى اوربة .كما قام القنصل الهولندي فان برغل عام 1830 بحفر بعض قبور قوريني تحصل منها على مجموعة من الاواني الفخارية المزخرفة تعرض الان في متحفي ليدن وامستردام . وحذا حذوهما نائب القنصل الفرنسي في بنغازي المدعو فاتتيه دي بورفييل خلال الاعوام 1846-1848 الذي مكث شهرين في قوريني منقبا عن اثارها وتحصل على تماثيل ومنحوتات بارزة اهمها تلك اللوحات الحجرية التي انتزعها من احدى واجهات القبور المزخرفة إضافة الى مجموعة من الاواني الفخارية والتماثيل الرخامية والتميثيلات الطينية والتي تعرض الان في متاحف اللوفر والمكتبة الوطنية وسيفر في فرنسة (الصور 1 -3 ).وقد حاول الرحالة جيمس هاملتون عام 1852 فتح مجموعة من القبور لسرقة محتوياتها في قوريني لكن محاولته باءت بالفشل بسبب تردي حالة الطقس .
ومن اهم الاعمال التخريبية في هذه المدينة ما قام به الضابطان :النقيب مردوخ سميث ومساعده الملازم إليوين بورشير من السلاح البحري الملكي البريطاني في عام 1861 بعد ان سمعا بغنى قوريني بالمنحوتات فقررا الحصول على كميات منها لتقديمها للمتحف البريطاني الذي قام بتمويل اعمالهما ، وقد مكثا في قوريني مدة تسعة اشهر من 23/12/1860 الى14/10/1861 منقبين عابثين بالمخلفات الاثرية حيث قاما و بمساعدة مجموعة من العمال المستأجرين بالحفر في العديد من مبان قوريني مثل معبد باخوس في الفورم ، و معبد ابوللو ،ومعبد زيوس ومعبد فينوس وغيرها من الاماكن ، وقد نتج عن اعمال الحفر تلك العثور على كمية كبيرة من المنحوتات الحرة والبارزة بلغت مائة وثمانية واربعون منحوتا(الصورة 4-6 ) وعشرة نقوش من اهمها تمثالا للمؤله باخوس وآخر للمؤله ابوللو حامل القيثارة وعدة تماثيل لإفروديت ، ومجموعة من تماثيل الاباطرة الرومان وغيرها من تماثيل المؤلهين والمؤلهات والتماثيل الشخصية من اهمها راس من البرونز ذو ملامح ليبية او افريفية يرجع الى القرن الرابع ق.م. (صورة رقم 7 ) اما التماثيل السابقة فهي ترجع الى العصر الروماني ،وقد نقلت تلك المنحوتات والنقوش الى بريطانيا على دفعتين : الاولى بواسطة السفينة الحربية ( H.M.S. Assurance) في يوم 8/6/1861 ، والثانية بواسطة السفينة الحربية ( H.M.S. Melpomene) في يوم 14/10/1861 ، والاخيرة حملت معها سميث وبورشير الذان ودعا مرسى سوسة فرحين بما سرقوا من آثار ماتزال تزدان ببعضها اروقة المتحف البريطاني ، والبعض الاخر يقبع في مخازن ذلك المتحف .
تعد هذه الكمية الكبيرة التي سرقت من قوريني اكبر كمية من المنحوتات سرقت منها ، وتعد في نفس الوقت اكبر كمية يستقبلها المتحف البريطاني دفعة واحدة ، وتجدر الاشارة الى ان سميث وبورشير قد تخليا عن الاساليب العلمية للحفر والتنقيب عن الاثار بغية الوصول الى التماثيل واللقى ، وكان الافضل لو تركت تلك المنحوتات في اماكنها حتى يكشف عنها بطريقة افضل ، وتعرض في متحف شحات بدلا من بعض النسخ الجبسية لبعض المنحوتات الي ارسلها المتحف البريطاني لتعرض في شحات مكان القطع الاصلية ، يا لها من مفارقة عجيبة .
وعندما عرضت تلك المنحوتات وغيرها من اللقى في المتحف البريطاني وشاهدها جورج دينس دفعته الى المجيء الى قوريني التي عدها مصدرا لصناعة الفخار المزخرف ، وسعى حثيثا لكي يُعين في منصب نائب القنصل الانجليزي في بنغازي و يمارس ليس مهامه القنصلية بل التنقيب والعبث بالقبور والبقايا الاثرية خلال الاعوام 1864-1867 ، ولم يكن نصيب قوريني منها كبيرا اذا ما قورن بتاوخيرة( توكرة) على سبيل المثال . ولم يقف الامر على هذا النحو فهناك عدة رحالة وقناصل زاروا قوريني لكن لم يسجل انهم قاموا بالسرقة والعبث بيد ان هذا ليس مستبعد فتعرض في متاحف اوربة العديد من اللقى الاثرية مصدرها الاقليم دون تحديد مدينة بعينها قد تكون قوريني غالبا.
ويتضح من خلال العرض السابق الدور السلبي الذي قام به مجموعة من الرحالة والقناصل الاوربيون في سرقة وتهريب الكثير من المنحوتات المهمة والعديد من الاواني الفخارية الرائعة واعداد هائلة من قطع العملة وغيرها من اللقى التي عثروا عليها اثناء تنقيبهم وعبثهم بالبقايا الاثرية في مدينة قوريني ، او اشتروها من بعض الاوربيين واليهود الذين كانوا يتاجرون بالقطع الاثرية ، وعلى الرغم من هذا فمن الضروري الاشارة الى جهود بعض الرحالة في مجال الكشف الاثري ، التي ما تزال كتاباتهم مرجعا مهما للمنقبين والباحثين الاثريين .
وقد اكمل الرحالة والقناصل دورهم على احسن وجه فنقلوا تلك المسروقات الى متاحفهم العالمية مثل: 1- المتحف البريطاني الذي تحوي مخازنه وتعرض اروقته العديد من المنحوتات الرائعة والاواني الفخارية المزخرفة وقطع العملة(صورة رقم 8 ) والتميثيلات الطينية وغيرها من القى التي لا يوجد ما يناظرها في قوريني .
2- المتحف الملكي باستكلندا الذي تعرض به مجموعة من التماثيل الرخامية والاواني الفخارية وبعض النقوش ، وللاسف فقد باع هذا المتحف بعض ما بحوزته من اثار قوريني في المزاد .
3- متاحف فرنسة وتشمل اللوفر وسيفر والمكتبة الوطنية بباريس وتعرض بها مجموعة كبيرة من المنحوتات والاواني الفخارية وكمية هائلة من التميثيلات الطينية وغيرها.
4-متاحف هولندا وتشمل متحف ليدن وامستردام التي تعرض بها مجموعة من الاواني الفخارية والتميثيلات الطينية .
وبعد هذا العرض للاثار التي سرقت من قوريني في القرن التاسع عشر والتي تعد انموذجا معبرا لبقية اللقى التي سرقت من بقية المدن الخمسة مثل تاوخيرة ، ويوسبريدس(بنغازي) وبطوليمايس (طلميثة) وبرقة ( المرج) وغيرها من المدن والمواقع الاثرية الاخرى ، كما انها جزء من المسروقات التي انتزعت من ليبيا بواسطة الرحالة والقناصل وغيرهم وتعرض الان فيما يقرب من خمس وعشرون متحفا في اوربة ،لذا يحق للشعب الليبي المطالبة بعودة تلك المسروقات لتعرض في المتاحف الليبية ، وقد نادت بهذا المطلب القيادة التاريخية في المؤتمر الخامس لدول عدم الانحياز بكلمبو في 18/ 8/1976، كما اثيرت القضية من جديد في مؤتمر آخر اقيم في بلغراد في عام 1989 وقد قررت تلك القمة بالاجماع استرجاع الاثار والممتلكات الثقافية المنهوبة ، وايدت الجمعية العامة للامم المتحدة ذلك في قرارها الصادر يوم 6/11/1989 والذي امتنعت الدول الغربية عن التصويت عليه .
ولم تؤول ليبيا جهدها في المطالبة باسترجاع الاثار المسروقة وليس ادل على ذلك من إنشاء مكتبا في تركيا تابعا للشؤون الخارجية خاص باسترجاع الممتلكات الثقافية المسروقة من ليبيا من بينها اللقى الاثرية ، وحتى الان لم تؤت تلك الجهود ثمارها ، ويبدو انه من الافضل ان يقام متحفا كبيرا مجهز باحدث التقنيات العلمية في العرض والحماية حتى تعرض به الاثار المسروقة من هذه المدينة اذا قدر لها ان تعود ، كما انه من الضروري ان تستغل تلك الاثار طيلة بقائها في المتاحف الاوربية للدعاية السياحية لاثار قوريني وليبيا بصورة عامة وتراثها الحضاري الموغل في القدم .

ليست هناك تعليقات: