السبت، 18 أبريل 2009

حكاية تمثال فينوس بنغازي المعروض في متحف بنسلفانيا




بعد ان تمكنت الجماهيرية الليبية من استعادة تمثال فينوس لبدة عام 1999 ثم فينوس قوريني عام 2008 من ايطاليا بفضل دور قائد الثورة وتأثيره السياسي و مطالبته المستمرة بإعادة الممتلكات الثقافية الى موطنها الاصلي ، جاء الان دور المطالبة بارجاع تمثال فينوس بنغازي المعروض في المتحف الاثري الانثربولوجي بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الامريكية منذ شهر مايو عام 1969 ، وهذه المقالة تعرض حكاية هذا التمثال و تبين اهميته و تجدد اثارة قضية الاثار الليبية المنهوبة والمطالبة باعادتها الى ليبيا.
وقد بدأت حكاية هذا التمثال عام 1902 في مدينة بنغازي التي كانت آنذاك متصرفية تركية يحكمها طاهر باشا ، هذه المدينة التي احتضنت انقاض مدينة يوسبريدس الاغريقية (مقبرة سيدي عبيد) منذ القرن السادس ق.م. ثم اعقبتها مدينة بيرينيكي منذ عام 246 ق.م. في موقع جديد تشغل جزء منه حاليا مقبرة سيدي خريبيش ، وقد عثر على هذا التمثال احد الليبيين ـ لم يحفظ لنا التاريخ اسمه ـ بين انقاض مبنى في منطقة ذكرت باسم عين السلماني في احدى الوثائق ، وقد سارع ذلك الشخص ببيع التمثال على عادة سكان المدينة عندما يعثرون على اشياء قديمة يسارعون لبيعها الى التجار المالطيين واليهود الذين كانوا يتاجرون بمثل هذه المقتنيات حيث ينقلونها الى اوروبة او يبيعونها للاجانب المقيمين بالمدينة ، كما كان بعض الليبيين يعرضون ما يعثرون عليه على الاجانب سواء المقيمين ام الزائرين للمدينة للاستفادة المادية من وراء بيعهم لتلك الاشياء التي اصبح ثمنها مرتفعا آتذاك ، ويشهد على ذلك ما ذكره الرحالة الفرنسي ماتيزوليكس الذي زار بنغازي عام 1906، ويبدو هذا ما حدث فعلا مع هذا التمثال حيث يبدو ان من عثر عليه قد باعه الى طبيب ايطالي كان يعمل بالمدينة يدعى جان بيرود (J.Perrod) الذي بدوره نقله الى مدينة تورين الايطالية (تورينو) عام 1906 وعرضه للبيع هناك حيث اشتراه الرسام الايطالي كارلو كيسا (C.Chessa) الذي بدوره نقله الى باريس عام 1907 حيث اعاره الى متحف اللوفر ليعرض به عدة سنوات قبل ان يعود به الى ايطاليا عام 1914 حيث عرضه للبيع في روما على مصلحة الاثار الايطالية لكن الاخيرة لم تشتره ربما لانها اصبحت في حوزتها تمثال فينوس قوريني الذي عثر عليه في مدينة شحات الاثرية في اواخر ديسمبر عام 1913 ونقله المستعمرون الطليان الى روما ليعرض في متحفها الوطني آنذاك (اعيد هذا التمثال الى ليبيا في نهاية شهر اغسطس 2008)، و لايعرف مصير تمثال فينوس بنغازي ما بين 1915 – 1930 ، لكنه ربما وصل باحدى الطرق الى نيويورك عام 1930 وبقى بها الى ان اشتراه السيد ارثر ايدوين باي من بانسلفانيا (A.E.Bye) الذي باعه الى سيدة امريكية تدعى مسز توماس غريست (Greist ) التي اشترته في 27 /6/1935 بمبلغ 15 الف دولار ، وقد ظل في ملكيتها حتى وفاتها ، وقد انتقلت ملكية التمثال الى ابنتها وزوج الاخيرة السيد بيومونت دبليو رايت (Beaumont W. Wright) ، وقد اهدت الابنة التمثال الى متحف جامعة بانسلفانيا في شهر مايو من عام 1969 ، في ذكرى والدها السيد توماس هاينز غريست ووالدتها السيدة ماري كوبير جونسون غريست ، وفي المتحف منح الرقم (L-262-1) وما زال معروضا في ذلك المتحف حتى الان ، وهو يحمل حاليا ًرقم التسجيل (69-14-1) ، وقد حمل التمثال رقم 29 في كتالوج النحت الكلاسيكي لمتحف بنسلفانيا الصادر عام 2006 ص ص.44-47 .
ومنذ وصول التمثال الى تورينو ثم باريس في بداية القرن العشرين لفت الانتباه ووتناولته اقلام الباحثين بالدراسة حيث كانت اول دراسة منشورة عنه هي دراسة ج. بيرو (G.Perrot) المنشورة عام 1906 ، وهي التي نسب فيها الاخير التمثال الى طراز افروديت انادومين ، وقد توالت الدراسات عن التمثال خلال القرن العشرين وجميعها اكدت نسبة التمثال لذلك الطراز لعل اهمها رسالة الماجستير التي قدمتها نانسي وينتر عنه عام 1970 ، كما ان الدراسة المنشورة في كتالوج المتحف مهمة و لخصت جل الدراسات السابقة التي تناولت تمثال فينوس بنغازي واعتمد عليها هنا في وصف التمثال ، يليها دراسة دونالد وايت للتمثال المنشورة عام 2007 التي ركزت على نقاط جديرة بالتنويه و العرض.
هذا عن حكاية تمثال فينوس بنغازي منذ العثور عليه عام 1902 في مدينة بنغازي الى وصوله الى متحف بنسلفانيا عام 1969 و الدراسات التي اجريت عليه ، اما عن وصف التمثال فهو تمثال صغير لا يتجاوز الجزء الباقي منه 32 سم وبعرض 13.5 سم ، و قد نحت من رخام متكون من حبيبات كبيرة مصدره جزيرة باروس الاغريقية وقد تأكد هذا من خلال التحليل الاشعاعي النظائري لرخام التمثال الذي عمله البرفسور نورمان هيرتز عام 1996 من جامعة جورجيا ، وهذا يؤكد اصالة هذا التمثال.
و التمثال في حالة جيدة باستثناء بعض التشوهات على الشعر و الاصابع و غيرها نتج بعضها عن تنظيف التمثال بعد العثور عليه بمواد غير مناسبة ، و التمثال غير كامل ويصور فتاة عارية من رأسها الى الجزء العلوي من فخديها ، حيث ظهر الجزء السفلي من التمثال بمثابة القاعدة التي يقف عليها ، ومن ناحية اخرى فان القدمين وارجل التمثال الى اعلى الفخدين ضائعة ويفتقدها الجزء المتبقي منه . وتظهر الفتاة (المؤلهة) رافعة يديها مع ميول رأسها قليلا نحو اليسار مع تنكيسه الى اسفل ، كما ان جسمها يميل نحو اليسار ، و يبدو ان التمثال كان يستند او يرتكز على القدم اليسرى ، و تمسك بكل يد من يديها نهاية الشريط الذي يعصب شعرها و الذي يبرز كأنه جزء من شعرها المجعد ، و تصفيفة الشعر بسيطة فهو مقسوم الى جزأين من منتصف الرأس ومربوط بحزام مع تجمعه خلف الرأس وتظهر منها عدة خصلات مضفورة متفاوتة الطول توجد خلف الرقبة وعلى جانبيها ، ويلاحظ ان اذني التمثال مثقوبان مما يوحي انه كانت تتزين باقراط وربما كانت اقراطا ذهبية ، اما عن الوجه و ملامحه فهو صغير وضيق ذو جبهة منخفضة ، وحدود تجويف العينين خشن ، اما الانف فهو طويل مذبب الشكل و الفم صغير و قد نفذ بشكل رائع ، و الذقن مستدير الشكل ، اما الرقبة فهي اسطوانية مكتنزة تظهر بها ثنية لحمية ، والبدن متطاول ، والصدر كبير و متوازن والبطن كبيرة ومكتنزة قليلا يتوسطها منطقة منخفضة للسرة ، ويلاحظ على اصابعها انها طويلة وقد نحتت الاضافر بعناية ، اما التمثال من الخلف فهو انموذجي في شكله ويظهر به تجويف رأسي بطول العمود الفقري اسفله توجد ما يشبه الحفرة ليست من عمل النحات و لكن يبدو انها عملت حديثا . اما الجزء السفلي من التمثال فمن الصعب وصفه بسبب ضياعه ، الا انه يمكن القول انه ربما يكون عارٍ ايضا يتناسب مع عري بقية التمثال وهذا الاكثر احتمالا و لاسيما عند مقارنته بتماثيل افروديت انادومين ، كما ان الارجل والفخدين قد تكون مغطاة بعباءة اسوة ببعض تماثيل المؤلهة افروديت / فينوس.
ومن خلال الشكل العام للتمثال فهو احد التماثيل المشهورة المنسوبة الى المؤلهة افروديت التي عبدها الاغريق بهذا الاسم و نقلوها في الاصل عن حضارات الشرق (عشتارت - عشتروت) ، وتمثل عندهم مؤلهة الحب و الجمال الانثوي ، وقد عرفها الرومان باسم فينوس ، وقد جسدت هذه المؤلهة باشكال متنوعة سواء في النحت ام في فنون اخرى ، كما انها كانت تجسد مدثرة بلباسها ولكن في غالب الاحيان كانت تصور عارية او نصف عارية و باوضاع مختلفة وفقا للصفات التي عرفت بها و الاساطير التي حيكت حولها ، ولعل من اشهر تماثيل افروديت / فينوس ذلك التمثال العاري الذي نحته النحات الاغريقي الشهير براكستليز ما بين 364-361 ق.م. في جزيرة كنيدوس وكان قبلة للزوار وفقا لما يذكره المؤرخ بليني في كتابه التاريخ الطبيعي ، اضافة الى التماثيل التي تنسب الى هذه المؤلهة و تصورها وهي خارجة من الاستحمام او البحر او صاعدة من البحر ، وهذا ما اصطلح على تسميته باسم انادومين (Anadyomene) ، وهي تقف عارية رافعه يديها لتربط شعرها مع ميول جذعها نحو اليمين او اليسار قليلا ، وقد وصفت هذه الوضعية اي انادومين في الكثير من الابجرامات الشعرية ، كما ان اقدم تجسيد لها ظهر في رسم جداري رسمه الفنان ابلليس (Apelles) (352-308 ق.م.) في اسكلبيوم مدينة كوس الاغريقية وفقا لما يذكره المؤرخ بليني الاكبر (كتاب 35 فقرة 91)، وقد ضاعت تلك اللوحة بعد ان نقلت الى مدينة روما في العصر الامبراطوري ، كما قلدت في رسم جداري بمدينة بومبي يجسد ميلاد افروديت ، وفي نهاية العصر الهلينِستي و العصر الروماني جسد هذا الموضوع في النحت والعملة وفي فنون اخرى ، وتمثال فينوس بنغازي من اوائل التماثيل الرخامية التي نسبت الى هذا الطراز ، ويمكن مقارنته من حيث الوضعية او الشكل العام بتمثال برونزي صغير لذات المؤلهة من الاسكندرية يعرض في المتحف البريطاني، وتماثيل اخرى من مصر في متحف اللوفر و متحف كوبنهاجن اضافة الى تميثيلات من الطين المشوي لافروديت انادومين تعرض في متحف اللوفر مصدرها كيرينايكي (قورينائية) تؤرخ بالقرن الثاني ق.م.، و يبدو ان تمثال فينوس بنغازي قد نحت بتأثير مدرسة الاسكندرية للنحت في العصر الهلنيستي وهذا ما اكدته ملامح التمثال و اسلوب نحته ، ومن ثم فان التمثال يؤرخ بواخر العصر الهلنيستي ما بين القرنين الثاني و الاول ق.م.
و هناك عدة نقاط جديرة بالمناقشة يطرحها هذا التمثال ، ركزت هنا في محورين يتعلق الاول بشكل التمثال و الثاني بمكان العثور عليه و ما يعكسه من معلومات ، ويمكن تفصيل المحورين على النحو الاتي :
اولاً : الشكل الذي ظهر به التمثال ـ اي بدون الجزء السفلي ـ يعد غريبا ، وكان هذا مثارا للجدل و المناقشة بين الباحثين لايجاد تفسير لهذه الوضعية او الشكل ، ويقال في هذا الصدد هل التمثال نحت في الاصل بهذا الشكل ، ام ان التمثال نحت بشكل متكامل ثم تعرض للقص بمنشار بعد العثور عليه ليسهل نقله خارج ليبيا ؟ الا ان التدقيق في الجزء السفلي من التمثال وفحص اجزاء منه بضوء فوق البنسفجي عام 1957 اظهر انه لا يوجد اي دليل للقص او آثار اي منشار ، مما جعل بعض الباحثين يرجح ان التمثال كان جزء من نافورة او وضع على حافتها او داخلها ليصور كأن المؤلهة خارجة من الماء او البحر وهي ذات الفكرة التي يرمز لها التمثال اي انادومين ، الا انه بسبب خلو التمثال من اي آثار تظهر تعرضه للمياه لفترة طويلة ، اضافة الى ان هذه الطريقة عرفت في العصر الروماني و التمثال يرجع الى اواخر العصر الهلنيستي ، مما جعل بعض الدارسين لا يؤيد هذا التفسير، ولكن ربما نحت التمثال لهذا الغرض لكنه لم يوضع داخل اي نافورة او بركة مياه. ومن ناحية اخرى فان هذا الشكل الغريب ربما لم يصنع هكذا انما الجزء السفلي كان ملتصق بالتمثال بتقنية بسيطة مكنت بعد العثور عليه او قديما من انفصال جزئي التمثال عن بعضهما بحيث بقى الجزء العلوي و ضاع الجزء السفلي عن قصد او بدون قصد.
ثانياً: واذا كان التمثال ينسب الى المؤلهة افروديت فهو من المؤكد له علاقة بالمكان الذي وجد به وبشكل اوسع بالمدينة و الاقليم ، ومن هذه الناحية من الضروري التأكيد على ان عبادة افروديت كانت منتشرة بالاقليم منذ القرن السادس ق.م. حيث ان هيرودوتوس في كتابه الثاني (فقرة 181) يشير الى وجود معبد في مدينة قوريني او في ضواحيها لافروديت حيث اهدت له لاديكي القورينية زوجة فرعون مصر اماسيس (570-526 ق.م.) تمثالا يمثل هذا المؤلهة ، كما عثر على الكثير من تماثيل افروديت في مدينة شحات الاثرية (قوريني) التي تعكس وجود معابد لهذه الربة و لاسيما في العصرين الهلنيستي و الروماني، ولعل اشهر تلك التماثيل التمثال المعروف باسم فينوس قوريني ، وهناك عدة تماثيل اخرى منها توجد في المتحف البريطاني ، كما شجع البطالمة على عبادة هذه المؤلهة وتشييد المعابد لها في مصر و الولايات التابعة لهم و منها اقليم كيرينايكي (قورينائية)، كما انهم قرنوها بعبادة بعض ملكاتهم مثل ارسنوي و بيرينيكي ، اما ما يخص مدينة بنغازي (يوسبريديس ـ بيرينيكي) فقد عثر على تماثيل لهذه المعبودة في حفريات سيدي عبيد (يوسبريدس) و حفريات سيدي خريبيش (بيرينيكي) مما يؤكد انتشار عبادتها في العصرين الاغريقي و الروماني ، يضاف الى هذا ان الجغرافي سترابون في كتابه السابع عشر (3 ، 20) يشير الى وجود معبد لافروديت في جزيرة في بحيرة تريتونيس التي بنيت قربها مدينة بيرينيكي ، هذه البحيرة التي ممكن توافق سبخة السلماني الواقعة قرب سيدي عبيد حيث توجد اطلال مدينة يوسبريدس القديمة ، التي كان يشار الى بقاياها باسم آثار السلماني ، وهذا تأكد من خلال خارطة مبدئية (sketch) اعدت لمدينة بنغازي عام 1888 بواسطة دي كاميرون (محفوظة الان في ارشيف المتحف البريطاني)، ويرجح ان موقع العثور على التمثال الذي اشير اليه باسم السلماني او عين السلماني ما هو الا بقايا قريبة من يوسبريديس وقريبة من معبد افروديت الذي كان موجودا في جزيرة وسط بحيرة وفقا لما يذكره سترابون ، و ليس بالضرورة انه وجد في ذلك المعبد لان اماكن وضع التماثيل الدينية كانت تتعدى المعابد فقد وجدت في بقايا المباني العامة والخاصة ، و لربما عثر على تمثال فينوس بنغازي في بقايا احد منازل الاغنياء التي يفترض وجودها داخل المدينة و خارجها، وعموما هذا التمثال يعد دليلاً آخر على عبادة افروديت / فينوس في مدينة بنغازي القديمة خلال اواخر العصر الهلنيستي ( القرن الثاني و القرن الاول ق.م.) و هي الفترة التي يؤرخ بها هذا التمثال.
ومما تقدم يلاحظ اهمية هذا التمثال ، كما ان عرض حكايته هنا ليس من باب التوثيق العلمي و التاريخي لهذا الاثر فحسب و لكن هي دعوة لاستعادة هذا التمثال من متحف بنسلفانيا واعادته الى مدينة بنغازي التي نهب منها الكثير من الاثار التي تعرض في الكثير من المتاحف العالمية ، كما انها دعوة للاسراع في انشاء متحف بهذه المدينة التي تفتقد الى هذا النوع من المعالم الثقافية والحضارية.

ليست هناك تعليقات: