نشر في العدد 11من صحيفة افاق اثرية الصادر في اغسطس 2012
شهر
رمضان في غدامس عام 1845
من
خلال مدونات الرحالة ريتشاردسن
لا
يزال الصوم في شهر رمضان يلفت انتباه الاجانب الذين احتكوا بالمسلمين سواء في
بلادهم ام الذين زاروا البلاد الاسلامية خلال ذلك الشهر ، واغلبهم يستغربون قدرة
المسلمين وصبرهم على الصوم من الفجر الى المغرب بدون اكل وشرب طيلة شهر كاملا ، اي
رمضان هذا الاسم الذي دخل اللغات الاجنبية معادلا لكلمة الصوم ، وان كان هذا الحال
في عصرنا هذا ، فما انطباع الرحالة الاجانب الذين زاروا ليبيا في القرن التاسع عشر
وتركوا بعض الانطباعات عن هذا الشهر الفضيل ، ومن خلال مدونات اولئك الرحالة يعد
ما سجله الرحالة البريطاني جيمس ريتشاردسن اول مستكشف للصحراء الكبرى (1809-1851)
من ملاحظات حول رمضان افضل ما كتب عن ذلك الشهر مقارنة بما سجله بقية الرحالة ، و ملاحظات
ريتشاردسن عن رمضان في غدامس تنطبق على بقية المدن الليبية ولاسيما انها توضح نظرة
الاوربيين للصوم في رمضان من الناحية الدينية اكثر من نواح اخرى .
لقد
وصل ريتشاردسن الى غدامس بعد 23 يوما من مغادرته مدينة طرابلس وتحديدا يوم 26/8/1845
ومكث بها ثلاثة اشهر كاملة حيث غادرها منطلقا الى غات في 26/11/1845 وتعد هذه
الفترة اطول مدة يقضيها اجنبي في واحة غدامس ومن ثم فهو افضل من كتب عنها في القرن
التاسع عشر ، وتعد ملاحظاته وانطباعاته عن المدينة مصدرا مهما لمعرفة احوال
المدينة آنذاك سياسيا و اقتصاديا واجتماعيا و عمرانيا وغيرها و التي نشرت عام 1849
في كتابه " Travels in the Great Desert of Sahara, in
the Years of 1845 and 1846"
الذي
ترجمه د. الهادي ابولقمة الى العربية باسم " ترحال في الصحراء ".
ومن الناحية الدينية سجل بعض الانطباعات عن
الاسلام وما يفعله اهل غدامس من شعائر دينية كالصلاة والصوم ، وقد كان متحيزا
لديانته اي المسيحية ومتعصبا لها بل ان من اهداف رحلته نشر المسيحية بين الطوارق وسكان
الصحراء حيث يلاحظ انه كان بحوزته انجيل مترجم الى العربية كان يعرضه على بعض المسلمين
لنشر المسيحية بينهم ، كما انه انهمك في ترجمة الانجيل الى اللغة التارقية بواسطة
احد سكان غدامس لينشره بين الطوارق لكن خاب ظنه وفشل مسعاه حيث انه كثيرا ما قدم
الانجيل المترجم الى العربية الى بعض اصدقائه من السكان لقراءة بعض فقراته الا
انهم لم يهتموا حتى بمجرد فتحه وفقا لما يذكره.
اما
عن انطباعات ريتشاردسن حول شهر رمضان والصوم
في غدامس فيمكن اجمالها في الاتي: لقد مكث هذا الرحالة اسبوعا في غدامس قبل
ان يبدأ شهر رمضان الذي وافق اول ايامه 4/9/1845 م ، ويشير الى انه في الليلة
السابقة طٌلب من اهالي غدامس الصوم بعد ان ثبت رؤية هلال رمضان ، ربما كان هذا من
خلال اوامر القاضي الشرعي الذي قابله ريتشاردسن وحضر مجلسه في شهر رمضان ، وبمناسبة
بداية الشهر اطلقت بعض الاعيرة النارية ، كما انه يشير الى انه بعد مجيء قافلة من
طرابلس بعد ايام اتضح ان بداية رمضان كانت في اليوم السابق لصيام اهل غدامس اي
3/9/1845 ، ويستغرب ريتشاردسن ان اهالي
المدينة كانوا دائما يسألونه منذ ان اعلن قدوم شهر رمضان هل سيصوم مثلهم ام لا ،
وكان جوابه الصمت غالبا ، الا ان اهالي غدامس لم يقبلوا ان يكون بينهم مسيحي لا
يشاركهم الصوم في رمضان وقد تعرض ريتشاردسن للاهانة عندما شرب من قربة ماء معلقة
في الميدان امام اعين احدى السيدات التي صرخت عندما رأته يفعل ذلك فما كان منه الا
ان هرب الى منزله مسرعا ، وقد كان يتظاهر بالصوم امام السكان لتجنب غضبهم.
ويبدو
ان معلوماته عن الصوم قد نقلها من قراءاته عن الاسلام و من مشاهداته وسؤال بعض
سكان الواحة اي غدامس ، فهو يشير الى عدم جواز الصوم لمن تقل اعمارهم عن 13 عاما
وكأنه يقصد هنا سن البلوغ عند الذكور ، ويشير الى ان سن الصوم لا تتعدى 8 سنوات وفقا
لرؤية بعضهم وربما يقصد سن البلوغ للاناث التي قد تكون مبكرة في المناطق الصحراوية
، ويشير الى ان المسلمين غير ملزمين بالصوم ولكن بشرط تأديته مرة اخرى ، وان مدة
الصوم مابين 29-30 يوما وفقا لرؤية الهلال.
ولاحظ
ريتشاردسن في اول ايام شهر الصوم ان شوارع غدامس كانت خالية من المارة حيث لايزال
التاس نياما او ملتزمين بالبقاء في منازلهم ، وهذا امر طبيعي بسبب شدة الحرارة في
فصل الصيف وعندما سأل الرايس التركي حول
هذا الشأن اجابه انه لايدوم الا يوم واحد حتى يعتاد الناس على الصوم ، وهو يشكر
ربه لانه ولد مسيحيا و غير مجبر على الصوم الذي عده يؤثر على صحة الانسان وقد
اخبره المترجم ان الناس بسبب الصوم يتحولوا الى شبه مجانين ، ويبدو ان ما نقله عن
المترجم لم يكن بهذه الصورة ، كما انه اخطأ عندما عد الصوم يؤثر سلبا على صحة
الانسان و الامر خلاف ذلك (صوموا تصحوا).
وعندما
زار الرايس في ظهيرة ذلك اليوم وجده صائما ومجهدا لانه كان مدخنا حيث كان الغليون
قل ان يفارق فمه في الايام العادية ، وقد بعث الرايس اليه في المساء وجبة دسمة بما
فيها حساء الشوربة ، وقد اعتاد الرايس ان يرسل اليه الوجبات طيلة شهر رمضان ، و قد
لاحظ ريتشاردسن ان اول ايام رمضان كأنه ليلة عيد عند السكان . وعنده ان الصوم
ظاهرة عامة فالشيوخ و الشباب و الاغنياء و الفقراء و ذي الشأن و العامة كلهم
صائمون ويشير الى ان هناك مشاعر دينية قوية تصاحب الصوم ، كما انه يستحيل وجود شخص
واحد في سني الصوم غير صائم . و قد كانت نظرة ريتشاردسن للصوم نظرة مادية وليست
روحية فهو يشير الى ان الصوم باطل مادام الناس يأكلون في الليل وينامون معظم
النهار مقارنة اياهم ببعض المسيحيين الذين يصومون عن الاكل ليلا ونهارا ، وهو هنا
اعتقد في اليوم الاول ان الناس يقضون نهارهم في النوم عندما وجد الشوارع خالية ولكنه
في اليوم الثاني يذكر انه قابل عدد كبير من المارة في الشوارع وبدون ان تظهر على
وجوههم آثار الصوم كما كان يتوقع ، وقد اقام الرايس في ثان شهر رمضان بمنزله حفلا
دينيا تليت فيه ايات من القرآن الكريم حضره ريتشاردسن ، وقد استغرب كيف ان الاهالي المرضى لم يتقبلوا تناول الدواء اثناء الصوم حتى لو كان
في ذلك انقاذ حياتهم ، حيث رفض رجلا يعاني من الرمد معالجته نهارا خشية تسرب
القطرة الى معدته ومن ثم سينتهك حرمة الشهر . وقد التقى ريتشاردسن احد الفقهاء
الذي اشار اليه لوقت السحور وهي الفترة التي يستطيع الانسان ان يأكل فيها قبل طلوع
الفجر او الامساك الذي يتزامن مع تمييز الخيط الابيض من الخيط الاسود ، وان تحديد
وقت الامساك كان على عاتق الفقهاء الذي ذكر له احدهم انه يمكن تحديده بسهولة في
المناطق السهلية حيث لا توجد معوقات تمنع رؤية الافق مقارنة بالمناطق التي تحيطها
المرتفعات. وقد لاحظ ريتشاردسن ان سكان
غدامس في رمضان وفي غيره من الشهور كانوا يحرصون على جمع قصاصات الورق الملقاة على
الارض واخفائها تجنبا وخوفا من احتوائها على اسم الجلالة . وقد لاحظ ان الجزارين
كانت وظيفتهم ليس بيع اللحم بل ذبح وتقسيم الشاة التي يشترك في شرائها عادة 4 او 8 اشخاص وهم بارعين في عملية التقسيم بدون ميزان. واشار
الى ان حبات التمر كانت اول شيء ينهي به الصائمون يومهم بعد سماع آذان المغرب
تليها جرعات الماء مع تكرار الدعاء و التسبيح بحمد الله حتى يؤدون صلاة المغرب و لاسيما الرجال في المسجد ثم
يرجعون لتناول ما اعد لهم من طعام في بيوتهم. وقد لاحظ ان بعض العبيد و ان كانوا
يصومون الا انهم لا يصلون و لا يذهبون الى المسجد الا نادرا مستشهدا على ذلك
بخادمه. وقد صادف في ذلك الشهر ان فرض باشا طرابلس محمد امين مزيدا من الضرائب على سكان غدامس بحجة
انهم لم يساعدوا حملة الباشا لاستعادة الجنوب الليبي واعادته الى سيادة الدولة
العثمانية ، ولتجميع هذه الغرامة المالية نزعت حلي النساء وعرضت بيوت الكثيرين
للبيع ، وقد حشد الغدامسيون نسائهم واولادهم في شوارع المدينة امام موظف الضرائب لانقاص مبلغ الغرامة ، وقد ادت هذه الغرامة الى سوء حال المدينة في
شهر رمضان . كما يشير الى ان هناك احتفالات دينية كانت تقام بمناسبة ليلة القدر
يقوم بها العبيد حيث يمرحون ويرقصون ويغنون مرتدين ملابس زاهية ويتفرج السكان على
اولئك العبيد برقصاتهم الرائعة. وقد وافق اخر يوم في رمضان الثاني من شهر اكتوبر
(التمور) بعد رؤية هلال العيد في اليوم التاسع والعشرين من رمضان ، وهذا يعني
الاحتفال بالعيد وهي مناسبة تقام فيها حفلات الزواج ايضا ، والعيد الصغير الذي
اشار اليه ريتشاردسن بهذا الاسم لاحظ ان السكان الذين قدموا اليه مهنئين بهذه
المناسبة كانوا يرتدون ملابس جديدة خاصة بالعيد ويبدو الابتهاج على وجوههم ، وجرت العادة ان
يحلقون شعورهم مجانا بحيث يتبادولون التحليق لبعضهم ، واشار الى ان المسلمين
الملتزمين منهم لا يأكلون شيئا حتى يفرغون
من صلاة العيد التي تنتهي قبل الظهر بقليل ، وقد كانت المساجد تزين بالاعلام ذات
اللون القرمزي و الاصفر و الاخضر ، ويجتمع اهل البلد عند الرايس للتهنئة ، ومن
مظاهر احتفالات العيد حفلات الرقص التي يقوم بها العبيد طيلة اليوم وتنتهي
بالادعية ، واستمرت الاحتفالات في اليوم الثاني حيث شاهد ريتشاردسن الجميع يلهون
بالمراجيح التي كانت تربط بين النخيل وكانت من اهم وسائل الترفيه في المدينة ،
وبسبب الاحوال الاقتصادية السيئة في غدامس فان اغلب الناس كانوا يقتاتون بالبازين
والتمر بسبب استيلاء الاتراك على جل ممتلكاتهم.
وفي
الختام هذه اهم ما دونه الرحالة البريطاني جيمس رتشاردسن عام 1845 من ملاحظات
ومشاهدات عن رمضان والعيد في مدينة غدامس والتي من المؤكد لا تختلف عما يحدث في
المدن الليبية الاخرى في اطاره العام ، و هذه الشهادة المشبعة بالتعصب من مسيحي
يحاول نشر المسيحية منتقدا الاسلام وتعاليمه كلما سنحت له الفرصة وهذا ليس غريبا عن
الرحالة الاجانب بصورة عامة ، كما ان ملاحظاته موجهة في الاساس الى بني جلدته حيث كان
كتابه في الاساس موجها لهم متحدثا فيه عن بقاع و شعوب كانوا يجهلونها تماما.