نشرت في صحيفة قورينا وفي الوطن الليبية
تناقلت وسائل الاعلام منذ مدة اخبارا عن تعرض رسوم ونقوش صخرية ترجع لعصور ما قبل التاريخ في منطقة ' أويص ' شمال جبال الأكاكوس الى التخريب ليلة 7/4/2009 برش طلاء اسود عليها قصد طمسها وتشويهها عمدا ، ويصادف هذا الحدث المأسوي ما يعرف باليوم العالمي للمواقع الاثرية وشهر التراث (18 ابريل من كل عام)، هذه المناسبة التي يعني احياؤها مزيدا من الاهتمام بالاثار والمواقع الاثرية ، وقد تمكنت الجهات الأمنية من القبض على المعتدي الذي اتضح انه مرشد سياحي طردته شركته السياحية فوجد ضالته في الانتقام بتشويه ذلك الموقع الاثري الذي يعد تراثا حضاريا من المحميات العالمية ليس من حق احد ان يعبث به ليس بحكم القانون فقط ولكن من ناحية الاخلاق والثقافة و الوطنية وحتى من الناحية الدينية .
ولعل ما استوقفني في هذه الحادثة ان من قام بفعلها مرشد سياحي ، اي ان هذا المرشد هو الذي كان يجب ان يقع على عاتقه حماية هذا الموقع اذ تعرض للخطر لانه من المفترض ان يكون على دراية كبيرة بقيمة الموقع الاثري من الناحية الحضارية والاثرية والثقافية والسياحية والاقتصادية ايضا ، ومن المؤكد ان ما وقع لا يشوه المرشدين السياحيين جميعهم ولكن ينطبق على حالة شاذة لاتنتمي الى اولئك المرشدين الذي اعدوا بشكل جيد للتعريف بحضارة ليبيا وتاريخها من خلال المواقع الاثرية التي يصطحبون السياح اليها .
وما وقع اضاف الى العبث الذي يحدث في بعض المواقع الاثرية جعلني اسأل من يحمي المواقع الاثرية في بلادنا ؟
في الواقع ان المعالم و المواقع الاثرية محمية بحكم القانون الليبي واقصد القانون رقم 3 الصادرعام 1994 الذي لايزال معمول به حتى الان ، حيث اهتم الفصل الثالث من القانون الاخير بحماية الاثار والمواقع الاثرية حيث اعتبرتها المادة الرابعة والخامسة من الاموال العامة و من الممتلكات الثقافية ونصت المادة التاسعة على الجهات المعنية اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الاثار في زمني السلم والحرب ، واعتبار المواقع الأثرية من الاماكن الحيوية الهامة ونظمت بقية مواد الفصل الثالث (10-34 )من هذا القانون الكثير من الاجراءات التي تخص الافراد او الجهات و التي تؤمن حماية الاثار و المواقع الاثرية ، ومن حيث العقوبات فقد نص الفصل الخامس (المواد 51 - 57) على العقوبات الرادعة لكل منتهك لاحكام هذا القانون ، وتمحورت العقوبة ما بين الحبس و الغرامة المالية ، اما الحبس فهو لا يزيد على سنة واحدة ، واقصى غرامة مالية وصلت الى 20000 دينار ، وبصورة عامة فان هذه العقوبات قد تكون غير رادعة و تحتاج الى مضاعفتها وتكون اكثر تفصيلا ودقة في شأن حماية الاثار و المواقع الآثرية .وقد حددت اللائحة التنفيذية لهذا القانون بعض التفاصيل التي من شأنها حماية المواقع الآثرية (الفصل الثالث المواد 4- 10) و الفصل الرابع المواد 11- 15 .
اذاً المواقع الاثرية محمية بحكم القانون الذي تطبقه الجهات القضائية المختلفة بالتعاون مع مصلحة الاثار التي تقع تحت مسؤوليتها المواقع الاثرية وهي الجهة التي انيط بها قانونا الاشراف على الاثار وحمايتها وصيانتها ودراستها وغيرها من الامور التي تهم هذا الشأن الثقافي والعلمي ،وذلك من خلال ادارتها المتوزعة على بعض انحاء متفرقة من ليبيا ، مع باحثيها وموظفيها الذين يكلفون بمهام تنصب في النهاية نحو الهدف الرئيسي حماية المواقع الاثرية بشكل او بآخر فبعضهم يشرفون على المواقع الاثرية حيث يستطلعونها و يسجلونها و يحدودون حدودها بالتعاون مع التخطيط العمراني والجهات ذات العلاقة ، كما يتعاونون مع البعثاث الاجنبية التي تنقب عن المعالم الاثرية و تتعهدها بالدراسة و النشر، ويسهمون في التنقيب عن الاكتشافات الاثرية التي بعضها يكون للمصادفة الدور البارز في اظهارها للوجود، كما ان حراسها على الرغم من قلتهم يحاولون قدر الامكان الاسهام في حراسة المواقع والمتاحف الاثرية ، وفي السابق كان يتمتع الكثير من العاملين بمصلحة الاثار بصفة مأمور الضبط القضائي التي تمكنهم من القبض مباشرة على اي معتدي على اي معالم اثرية بالتشويه او التدمير ، الا ان هذه الميزة قد نزعت منهم منذ سنوات مما جعل هناك صعوبة في تأدية مهامهم عندما يصادفهم اي مخربين في بعض المواقع البعيدة عند ممارسة تفتيشهم الميداني زد على ذلك ان بعضهم قد تعرض للتهديد او الاعتداء اثناء تأدية مهامه ، هذا القول يدفع الى المطالبة باعادة صفة مأمور الضبط القضائي لباحثي مصلحة الاثار ، وهذا من شأنه يكون دافع معنوي يجعلهم يؤدون وظيفتهم على اكمل وجه تحميهم صفتهم القانونية .
ومن ناحية اخرى فإن انشاء جهاز الشرطة السياحية والذي اصبح اسمه منذ سنة او يزيد جهاز الشرطة السياحية وحماية الاثار حيث توحي هذه التسمية ان هناك اهتمام كبير بحماية المعالم الاثرية ، وهذا جيد من الناحية النظرية اذا جُهز هذا الجهاز بأفراد يقومون بمهمة الحراسة بشرط ان يكونوا على دراية كبيرة بمفهوم الاثار وقيمته واهميته ، ويؤدون مهمتهم ليس بهدف الراتب الذي يتقاضونه فقط ولكن من منطلق قناعتهم بأهمية المهمة التي يؤدونها إذ أنهم يحرسون ثراث ثقافي وحضاري لهذا الوطن العزيز اذ ضاع او شوه فان هذا يعني ان صفحات قد نزعت من دفتر تاريخ ليبيا لن تعود اليه ، لكن يجب ان نعترف ان هناك صعوبة جمة في حراسة المواقع السياحية والاثرية التي تتميز بكثرتها وانتشارها على رقعة كبيرة من بلادنا بعضها مسجل وموثق وبعضها لم يتم تسجيله بعد ، ومن هنا تأتي صعوبة حمايتها فانتشارها المكاني المتسع يعد حائلا من السيطرة عليها وهذا يتطلب اعداد لاحصر لها من رجال الأمن الذين من الضروري تواجدهم في المواقع الاثرية او بالقرب منها لحراستها ، ومن الناحية الواقعية هذا لايمكن تطبيقه في جميع المواقع ، وفي هذا الصدد لكي يتم التغلب عن الانتشار المكاني للمواقع الاثرية من الضروري الاستعانة بالتقنية الحديثة وتركيب اجهزة مراقبة والآت تصوير تربط بحجرات عمليات مركزية للسيطرة على المواقع الاثرية ومراقبتها مراقبة مكينة مع وضع نقاط حراسة في اماكن استراتيجية تمكن رجال الامن الوصول الى المواقع المهددة بالخطر في اقرب وقت ، اضافة الى تجهيزهم بوسائل التنقل السريعة و اجهزة الربط مع الاقمار الصناعية واجهزة الـ ( GPS ) وغيرها من الاجهزة الحديثة التي تساعدهم في تأدية مهمتهم . ويجب ان تكون هذه التجهيزات ضمن خطة امنية واضحة المعالم تهدف الى حماية المواقع الاثرية ، واذا حدث هذا سنكون متفاؤلين لحماية المواقع الاثرية وتطويرها ايضا.
ومن ناحية اخرى هناك خطوات من الضروري ان يتم عملها لتسهل حماية المواقع ويقصد هنا عمل خارطة اثرية توضح عليها جميع المواقع الاثرية بداية من المدن والقرى القديمة وانتهاء بالمواقع الصغيرة مثل المزارع المحصنة او المباني المنتشرة هنا او هناك في مناطق نائية او توجد داخل نطاق املاك خاصة مثل المزارع او مناطق رعوية وتلك هي اكثر عرضة للاعتداء عليها وهنا ليس لغرض التشويه ولكن للبحث عما تحويه ـ وفق ما يعتقد الكثير ـ من كنوز او مقتنيات اثرية يمكن بيعها والكسب من وراء هذه العملية ، ويتطلب عمل تلك الخريطة مجهود كبير ومشروع حضاري تتبناها الدولة الليبية وتنفذه مصلحة الاثار بعد ان يقدم له الدعم المادي والفني والتقني لتنفيذ هذا العمل الذي يحتاج الى تضافر الكثير من التخصصات لإنجازه ، وهذا يحتاج الى خطة تعدها مصلحة الاثار يكون عمادها باحثي المصلحة وطواقمها الفنية بالتعاون مع اقسام الاثار في الجامعات الليبية وخريجي تلك الاقسام ، و الاستعانة بالبعثات الاجنبية للاستفادة من خبراتها من اجل انجاح هذا المشروع فنحن في الوقت الراهن احوج لتسجيل و توثيق المواقع الاثرية بدلا من التنقيب فيها ، ويكون هدف هذا المشروع استكمال الخرائط القديمة التي اعدها جودتشايلد و الاستعانة بالمشروع العالمي الذي يسجل المواقع الاثرية الرومانية في العالم و الذي يشرف على الجزء الافريقي منه الاستاذ ديفيد ماتنقللي ، بحيث يضاف الى الخارطة القديمة جميع المواقع غير المسجلة و لاسيما غير المشهورة والواقعة في اماكن بعيدة عن العمران ، ويجب ان يشمل هذا المشروع تسجيل علمي لكل تلك المواقع وتوثيقها من حيث الرسم والتصوير والوصف وعمل حماية لها (تسييجها مثلا) وتعليق ما يشير الى الموقع الاثري ورقمه وحمايته قانونا ، يصاحب تلك الاعمال عمل ارشيف ورقي ورقمي اكتروني لجميع تلك المواقع اي تكوين قاعدة بيانات لجميع المواقع الاثرية وهذا نوع من الحماية لها.
وفي الختام هل هذا يكفي لحماية المواقع الاثرية ؟ من ناحية اجرائية (نظرياً وتطبيقيا) هذه اهم الخطوات التي يجب ان تعمل لحمايتها و بعضها نفذ بالفعل ، لكن ما يجب ان يعول عليه هو المواطن الليبي الذي يجب ان يشارك في حماية المواقع الاثرية ، ولكي يتحقق هذا يجب ان يكون لدى المواطنين الوعي الاثري باهمية تلك الاثار حتى يسهموا في حمايتها ، و متى تحقق هذا الوعي فانه سيكون عامل ايجابي يجعل المواطنين لايسهموا في إلحاق اي ضرر بالمواقع الاثرية بل حمايتها ، فالاثار متوزعة هنا وهناك ، واحيانا يكتشف احد المواطنين بالمصادفة موقع اثري عند اعمال بناء منزل او اعمال في مزرعته او املاكه بصورة عامة ، فالمواطن الذي يحس بقيمة هذا الاثر عليه ان يسارع لابلاغ الجهات المسؤولة لكي تتخذ الاجراءات المناسبة ، و لايخفي الشيء الذي اكتشفه او يعبث به لغرض الاتجار به او يردم الاثر معتقدا ان مصلحة الاثار سوف تستولي على المكان الذي اكتشف به الاثر مثل مزرعته او ارضه او منزله ، و لم يحدث ان مصلحة الاثار قد استولت على اي ممتلكات شخصية وإن حدث هذا فأن هناك مبدأ التعويض الذي نص عليه القانون الليبي.
ولتحقيق الوعي الاثري يتطلب أن يصبح قطاع الاثار شأن ثقافي لا يقتصر على من يشتغلون في هذا المجال وعلى ثلة من المثقفين الذين يحسون باهمية الموروث الثقافي والحضاري لبلادهم ، بل يجب ان يحس المواطن باهمية الاثار وانها التعبير المادي عن تاريخه الحضاري وهذا لا يحدث بين يوم وليلة بل يجب ان تكون هناك خطة طموحة تهدف الى توعية الفرد بتاريخه وحضارته ، او التاريخ الحضاري لارضه التي استوطنتها شعوب مختلفة تركت اثارها وحضارتها على هذه الارض مثل الاغريق و الرومان ، فلا يجب ان ننظر الى تلك الاثار انها اثار غريبة علينا لا تمث الينا بصلة بل الامر خلاف ذلك فمهما كانت اصول من شييدها فهي في النهاية اثارا ليبية وفقا لموقعها المكاني على الارض الليبية ، و لايجب لا ننسى الدور الليبي في تلك الحضارات الذي يجب ابرازه و الاشادة به ، اذ نحن تنقصنا الثقافة التاريخية والاثرية فالكثير قد لايعرف التسلسل التاريخي لبلاده و لايعرف اي شيء عن المعالم الاثرية المنتشرة بها ، وهذا النقص هو الذي يجب ان يسد بالمناهج الدراسية التي تركز على هذه الجوانب و ابرازها و لاسيما للنشء الجديد بحيث تتطور هذه المعرفة بالارتقاء في السلم التعليمي يدعمها الدور الفعال لوسائل الاعلام المختلفة التي يمكن ان تنشط في توسيع دائرة الاهتمام بالاثار والتاريخ لخلق وعي ثقافي باهمية الاثار لدى شريحة كبيرة من شرائح المجتمع ، كما يجب عمل الدعاية الاعلامية المناسبة للمواقع الاثرية والتعريف بها لجذب الليبيين لزيارتها ، تلك الزيارت من شأنها ان تعمق الوعي الاثري لديهم ، وعلى الدولة الليبية ان تشجع السياحة الداخلية بان تكون زيارة المواقع الاثرية مجانية لليبيين ، وان تصبح تلك المواقع والمتاحف جزء من العملية التعليمية بحيث تتحول الى قاعات للدرس يتلقون فيها التلاميذ دروسهم التاريخية على ارض الواقع . ان الوعي بأهمية الاثار هو العامل الايجابي الذي يُمَكّن من حماية المواقع الاثرية ويضمن عدم تعرضها للتخريب و للدمار.
ان الاجراءات التي سبقت الاشارة اليها تحتاج الى تضافر الدولة الليبية بأجهزتها وادارتها المختلفة ودعمها الا محدود لقطاع الاثار ، مع همة المجتمع المدني الذي يعول عليه من خلال وعي المواطن ، وتأسيس الجمعيات الاهلية المختصة التي تسهم في حماية الاثار ونشر الوعي الاثري بين المواطنين .
ومما تقدم هذه دعوة الى الاسراع في اعداد خطة علمية مدروسة لحماية الاثار ثم تنفيذها بحيث تتكاثف فيها جهات علمية وأمنية مختلفة وتنشد زيادة الوعي الاثري للمواطن الذي تقع عليه مهمة حماية تاريخه وثراثه ، وبهذا تحمى المواقع الاثرية.