نشرت المقالة في العدد 4-5 من صحيفة افاق اثرية الصادر في ديسمبر 2011
حفريات جديدة في مدينة سرت الإسلامية
ترجمة
أ. خالد محمد الهدار
قبل قراءة النص:
تجدر الإشارة إلى أن المقصود بمدينة سرت
الإسلامية هنا يختلف عن موقع مدينة سرت الحالية فهي تبعد عنها مسافة 55 كم غربا ، وهي قريبة من قرية سلطان
التي تقع للشرق منها بمسافة 5 كم ، وعرف
هذا الموقع محليا باسم المدْيّنة أي تصغير لكلمة مدينة، هذا الموقع الذي شغلته
قرية كاراكس الفينقية ثم إسكينا الرومانية التي عرفت في العصر البيزنطي باسم سرتيس
ومنها أطلق عليها العرب اسم سرت،أما سرت الحالية فقد كانت تعرف باسم يوفرانتا ثم ماكومادس
(مغمداس عند الرحالة المسلمين)، وبعد نهاية سرت الإسلامية أصبح اسمها يطلق على
كامل المنطقة، وعندما بنى الأتراك قلعة في سرت الحالية في مرسى الزعفران عام 1842
عرفت باسم قصر الزعفران ثم باسم قصر سرت، ومن هنا جاءت تسمية سرت التي يختلف
موقعها عن مدينة سرت الإسلامية.وقبل أن تبدأ حفريات البعثة الفرنسية بها عام 2007
بإشراف د.جون ميشيل موتو شهدت المدينة أعمال ميدانية أهمها: حفريات مصلحة
الآثار بواسطة أ. عبدالحميد عبدالسيد ما بين 1963-1964 ،و د. محمد مصطفى ما بين
1965-1966 ثم حفريات جمعية الدراسات الليبية في لندن بالتعاون مع مصلحة الآثار
باشرا ف د. قيزا فيهرافاري وأ.مسعود شقلوف
ما بين 1977-1981.
النص:
يعد عام 2007 علامة بارزة في أعمال البعثة
الأثرية الفرنسية في ليبيا حيث انطلق أول موسم حفريات في مدينة سرت الإسلامية، وسبق
أن ألقيت عدة محاضرات عن تاريخ ليبيا اختصت بفتح الجيوش العربية لها ، وأخرى ركزت
على مدينة طرابلس ، وموضوع الحملات العسكرية التي قادها قراقوش على ليبيا زمن الأيوبيين.
ولكن هذه المرة الأولى التي تعقد بها عدة جلسات علمية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في مجال العلوم التاريخية واللغوية (EPHE) في جامعة السوربون تركز على
التاريخ والآثار الإسلامية في ليبيا على وجه الخصوص قدم فيها تقرير أولي عن
الموسمين الأول والثاني من الحفريات التي أجريت في أغسطس 2007 و ابريل 2008.
تتوسط مدينة سرت الإسلامية (55 كم شرق سرت
الحالية) الساحل الليبي عند حافة خليج سرت حيث تبعد 600 كم للشرق من مدينة طرابلس
، ومن ناحية أخرى تبعد 600 متر عن البحر
المتوسط الذي تطل عليه ، لهذه المدينة سور بيضوي يحيط بها ويطوق أكثر من 18
هكتارا، والمدينة تظهر اليوم على هيأة مساحة كبيرة جدرانها منهارة وهذا يرجع إلى أن
اغلب مبانيها كانت مادة بنائها الرئيسة الطوب اللبن الذي انهار أو تكوم على نفسه.
لم يبرز من المدينة إلا بعض المعالم المتبقية أو التي كشف عنها مثل المسجد الكبير،
وبقايا سور المدينة وأيضا بعض التلال المرتفعة قليلا عن سطح الأرض ، والتي عرفت تحت
اسم الحصن الجنوبي الشرقي والحصن الجنوبي الغربي.
أسست مدينة سرت عند بداية الفتح العربي
لليبيا في عام 644 م بواسطة عمر بن العاص الذي قرر أن يضع حامية عسكرية قرب
المدينة الرومانية القديمة التي تسمى اسكينا والتي بقاياها لا تزال بارزة للعيان
وذلك للغرب من موقع سرت الإسلامية. غير إن المدينة يبدو أنها لم تعرف التطور والازدهار
إلا في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، وذلك في الوقت الذي أصبحت فيه محطة
بين المشرق والمغرب وسوق أو منفذ ترتاده القوافل القادمة من جنوب الصحراء. وعندما
حاول الفاطميون فتح مصر عن طريق تونس
(افريقية) جعلوا سرت نقطة ارتكاز عسكرية ومكان لتزويد جيشهم بالمؤن والماء. ومن ثم
فان سرت كانت محطة أساسية في فتح مصر بواسطة الفاطميين عام 969 م. أما عن سبب هجر
الموقع فإن الفرضية الأكثر شيوعا في تفسير
ذلك هو تدميرها بواسطة قبيلة بني هلال العربية في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي
حيث استفاد الهلاليين من إهمال الفاطميين لهذا الموقع العسكري بعد فتحهم لمصر،
واستغلوا الصراع القائم بين الفاطميين والزيريين في تونس وسيطروا على سرت. وعلى الرغم من هذا فان المدينة استمر ذكرها في
كتب جغرافي ورحالة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأيضا أشار إليها ليو الإفريقي
(الحسن الوزان) في بداية القرن السادس عشر وذكر إنها كانت مدمرة، وهنا يجب إن
نتحدث بيقين عن الانهيار البطيء والطويل زمنيا لمدينة سرت عوضا عن هجرها المفاجئ .
كما تعد مدينة سرت احد المواقع الأثرية الإسلامية
الرئيسة في ليبيا، وهي في الواقع أول موقع اثري إسلامي أجريت به حفريات في هذه
البلاد منذ عام 1963 بواسطة مصلحة الآثار. تركزت تلك الحفائر على المسجد الكبير
الذي كان المعلم الوحيد البارز فوق سطح الأرض ، إضافة إلى بقايا سور المدينة، وعلى
بوابتي المدينة الواقعتان في الشمال والشمال الغربي منها. غير أن الحفريات الأكثر أهمية
والأفضل توثيقا هي التي أجرتها البعثة الانجليزية ما بين 1977-1981 تحت إشراف قيزا
فيهرافاري. التي نتج عنها رسم أول مخطط دقيق للموقع ، كما إن الحفريات في المسجد
الكبير قدمت تسلسل تاريخي دقيق لهذا المبنى الرئيسي.
لقد اقترحت البعثة التي انطلقت عام 2007
بالقيام بدراسة عامة للموقع لتحديد فترة استيطان المدينة بدقة، وتحديد وظيفة
مبانيها بدقة أيضا (المباني العسكرية و التجارية .. الخ) ، إضافة إلى عمل مسح علمي
شامل لما بداخل أسوار المدينة، وهذا أدى إلى جرد أكثر من 300 مبنى اثري (مسجد ،
حصون ، 37 صهريج ..الخ)، وفي الوقت نفسه فان دراسة طبوغرافية الموقع أدت إلى رسم
خارطة جديدة لسرت حيث حددت فيها الأسوار التي كانت أجزاء منها غير مؤكدة أو غير
واضحة. ولقد وضّح هذا المخطط إن الأحياء
السكنية الصناعية كانت أكثر تركزا في النصف الشمالي من المدينة في شكل تنظيم حضري
واضح حيث خمنت أماكن بعض المخططات مثل
الشوارع والأزقة ، بينما النصف الجنوبي يبدو انه اقل بكثير من حيث كثافة
الاستيطان، فهذا الجزء يشاهد كأنه خالي من المباني تقريبا لاسيما قرب الأسوار.
وهناك خط من الآبار بعضها يرتبط بأحواض، يبدو إنها كانت تفصل جزئي المدينة عن
بعضهما.
كما أدى المسح العلمي الذي اجري على مسافة
500 متر من الأسوار من الخارج إلى تقديم معطيات ومعلومات جديدة تماما. ومنها إن إطراف
المدينة كانت مشغولة بالعديد من المواقع الجنائزية (المقابر) مبعثرة نسبيا، والتي
ظهرت في شكل قبر أو مكان جنائزي بُني من الداخل بأحجار وضعت فوق بعضها دون مونة
تربط بينها، لوحظ من بينها وجود أحجار مشذبة لاسيما عند مكان الرأس، غير أن
الاكتشاف الأكثر أهمية حدثت في الناحية الشمالية الشرقية من المدينة حيث لوحظ وجود
50 حفرة مستديرة بحجم واحد ، هذه الحفر يحيط بها إطار مرتفع من الطين اللبن يبدو أن
بعضها كان يرتبط بوظيفة صناعية : حيث يبدو إنها
تتعلق بأحواض مشيدة بالطين اللبن تستعمل لإعمال الصباغة أو الدباغة.
واتضح من الحفريات التي أجريت في عام 2008
على احد حصني المدينة والمقصود هنا الحصن الجنوبي الغربي ، انه يأخذ شكل شبه منحرف
بطول 66 متر وبعرض 43 متر وهو محاط بخندق من الخارج. يوجد في مركز هذا الحصن ثبة مساحتها
حوالي 15 مترا مربعا تسيطر على هذا المكان ، وتبين من الحفريات إن هذه الثبة تمثل
احد الأبراج المربعة التي كانت قائمة على أساسات حجرية بسمك 1.50 مترا ، ومن حيث
جداره فقد كان مختلط ما بين الحجارة والطين اللبن حيث يصل ارتفاع الجدار الحجري إلى
اقل من 1.70 مترا ثم يعلوه الجدار الطيني. وقد سمح لنا التحليل بواسطة الكربون 14 بالقول
إن هذا المكان ظل مستخدما حتى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد أجريت عدة مقارنات
بينه وبين أبراج دفاعية إسلامية من ريف بلنسية باسبانيا التي كانت أيضا مربعة
الشكل وجدرانها الطينية أقيمت على أساسات حجرية. مع ذلك فان برج سرت إبعاده كبيرة
، و يعكس هذا الاختلاف في الإبعاد ربما الوظيفة الدفاعية والرمزية لهذه الأبراج،
ومن الضروري إن نضيف انه كان لسرت وظيفة
سكنية وتخزينية.
ولقد أدت نتائج الموسمين الأولين من
التنقيب في سرت من تزويدنا بمعطيات جديدة عمقت معرفتنا بهذه المدينة، فيما يخص
الوظائف الحضرية للمدينة اتضح إن سرت كانت مدينة عسكرية في المقام الأول في سرت.
حيث يبدو أن الموقع الذي شغله الحصن الشمالي الشرقي والحصن الجنوبي الغربي في
المدينة قد لعب دورا أساسيا في النسيج
الحضري للمدينة. كما إن اكتشاف الحفر المستديرة في شمال المدينة التي سيبدأ في
التنقيب في أحداها موسم 2009 أشار أيضا إلى
إن سرت من غير شك ليست منفذ أو ميناء
للتصدير لأحد طرق القوافل فحسب ولكن مركز
رئيسي للإنتاج أيضا. ويبدو بشكل واضح إن هذه المدينة لم تهجر بشكل مفاجئ بعد
احتلالها من قبل قبائل بني هلال في منتصف القرن الحادي عشر حيث استمر الاستيطان
بها حتى القرن الرابع عشر . وهذا يدفع أيضا إلى التساؤل إذا كان العامل الرئيسي
لهجر المدينة ليس بسبب المناخ . غير أن كثرة الصهاريج وما ذكرته بعض الكتابات عن تخزينها
لمياه الأمطار يتناقض مع قلة سقوط الأمطار حاليا، وهذا يعكس كونها تقع في إقليم
غاية في الجفاف.