نشرت في صحيفة ليبيا اليوم بتاريخ 14/2/2009
لعل ابرز ما يميز مدينة طرابلس القديمة قلعتها المطلة على البحر في جنوب شرقي المدينة ، و المجاورة حاليا للساحة الخضراء ، هذه القلعة التي يجاوز عمرها اكثر من 500 عام ظلت تقاوم الزمن لتروي فصول مهمة من التاريخ الحديث و المعاصر لمدينة طرابلس ، وقد اشتهرت القلعة بانها كانت مقرا للحكام الاتراك وانها بنيت باحجار حمراء اللون او ان جدرانها كانت تطلى باللون الاحمر ومن ثم فقد استحقت تسميتها السراي الحمراء .
ومدينة طرابلس التي كانت تعرف باسم اويا او اويات اسست بواسطة الفينقيين في القرن الخامس ق.م. ثم تمكن الرومان من الاستيلاء عليها في نهاية القرن الاول ق.م.اعقبهم البيزنطيين في القرن الرابع الميلادي ثم الوندال عام 455م ثم اعاد البيزنطيين الاستيلاء عليها في 534 م واخيرا فتحها العرب المسلمون عام 643م وظلت عربية اسلامية الى عصرنا الحاضر ، وعلى الرغم من الشعوب القديمة التي تتابعت على استيطانها الا ان المعالم الاثرية التي ترجع اليهم تعد قليلة بسبب تواصل الاستيطان بها الى الوقت الحاضر ، ومن ناحية اخرى يرجح ان المكان الذي بنيت عليه قلعة طرابلس (السراي) كان مشغولا باحد المباني الرومانية (ربما حمامات عامة) ، كما يبدو ان البيزنطيين بعد ان طردوا الوندال من طرابلس عام 534 م اقاموا قلعة او حصن لحماية المدينة ، الذي كان يمثل جزء من تحصيناتها ، وهي ذات التحصينات التي وجدها المسلمون واضافوا اليها ، و استمرت مستعملة في العصور الاسلامية المختلفة حيث كانت مركزاً لحكام طرابلس من اغالبة وموحدين و حفصيين والاخيرين اهتموا بتحصينات طرابلس و تدعيمها قد يكون من بينها القلعة على الرغم من ان الرحالة التيجاني الذي زارها ما بين 1307-1308 م يشير الى تردي حالتها ، ويبدو ان هذا كان دافعا للاسبان الذين احتلوا طرابلس في 25 /7/ 1510 بقيادة الكونت بيترو دي نافارو لاعادة بنائها لتكون حصناً يحميهم من الطرابلسيين و التواجير الذين قاوموا ذلك الاحتلال ، ويرجع الشكل الحالي العام للقلعة او السراي الى الاعمال التي قام بها الاسبان حيث بنوا او جددوا الحصن او البرج الجنوبي الذي اسموه حصن القديس جورج الذي يقابل حاليا شارع امحمد المقريف والذي يشبه في شكله مقدمة السفينة ، كما بنوا الحصن الغربي الذي اسموه حصن القديس يعقوب و الذي يقع حاليا قرب برج الساعة ، وهذين الحصنين او البرجين يواجهان المدينة حيث يسكن الاهالي المقاومين لهم ، وهناك جدار ضخم يمتد بين الحصنين و يشكل الجانب الجنوبي الغربي للقلعة و يمتد هذا الجانب مسافة 130 مترا ، و يتوسطه المدخل الرئيسي للقلعة ، وهناك جدار اخر يشكل الجانب الجنوبي الشرقي يمتد مسافة 140 مترا و الذي ينتهي ببرج اطلق عليه فرسان مالطا الذين بنوه اسم القديس جاكمو ، ويجاور هذا الجدار ساحة اطلق عليها الاسبان ساحة القديسة باربرة التي يطل عليها مسكن الوالي و مخزن الذخيرة ، كما يوجد جدارا على الجانب الشمالي الشرقي يمتد لمسافة 115 مترا ، اضافة الى الجدار الشمالي الغربي الممتد مسافة 90 مترا الذي يتوسطه من الداخل كنيسة بناها فرسان مالطا عرفت باسم كنيسة ليوناردو ، وبهذا فان السراي تتكون من اربعة اضلاع وتشغل مساحة 13 الف متر مربع تقريبا ، استقرت بها الحامية الاسبانية المعتدية الذين شيدوا اغلب مبانيها من حجارة سور مدينة طرابلس و بعض مباني طرابلس الاخرى، وعندما زار الحسن الوزان (ليو الافريقي ) طرابلس و صف السراي بانها ذات اسوار ضخمة ومزودة بمدفعية ، وعلى الرغم من هذا فان السراي او القلعة ذكرت في تقرير في شهر اكتوبر عام 1524 بانها تحتاج الى صيانة وترميم اسوارها وانها لن تصمد امام المدفعية القوية .
وقد سلم الاسبان طرابلس الى ما يعرف باسم فرسان مالطا منذ عام 1530 الذين استقروا بها حتى عام 1551 ، وقد اتخذ هولاء السراي حصنا لهم و لذا فقد اهتموا بها حيث قاموا ببعض الاصلاحات واضافوا بعض الاضافات التي تعزز مقاومتها لخطر اهالي طرابلس من البر ، و الاسطول العثماني ـ الذي يجوب البحر المتوسط ـ بحرا ، و الذي افلح في 14 /8/1551 من طرد فرسان مالطا واعادة هذه السراي الى وجهها الاسلامي بعد ان حاول الاسبان و فرسان مالطا ان يجعلوها مسيحية ، فقد حولت الكنيسة الى مسجد في عهد مراد آغا عرف باسم مسجد القلعة او مسجد الجند ، ولقد اهتم العثمانيون بهذه السراي و ادخلوا عليها الكثير من الاصلاحات واستقر بها الحكام الاتراك والحامية التركية خلال العهد العثماني الاول 1551-1711 ، وكانت تحوي الكثير من المنشأت و المباني لاقامة الولاة الاتراك و حاشيتهم و جنودهم الذي يعززون سيطرة الدولة العثمانية على هذا الجزء من الشمال الافريقي ، وينطلقون منها لجمع الضرائب من الاهالي الذين برزحون تحت سيطرة الاتراك اخوانهم في الدين . وقد كانت السراي محصنة بطريقة جيدة اضافة الى اسوارها وابراجها التي كانت تعلوها عشرات المدافع زد على ذلك خندق مائي يحيط بها من ثلاث جهات اضافة الى البحر من الناحية الشرقية .
وخلال سيطرة القرمانليين على سدة الحكم في طرابلس ما بين 1711-1835 استقر بالسراي باشاواتهم الذين كان من اشهرهم احمد باشا وعلي باشا و يوسف باشا و قد شهدت السراي عدة اضافات في عهدهم حيث اصبح للباشا منزل خاص به و لاسرته ، وهناك ما يعرف باسم الردهة القرمانلية المتكونة من طابقين و يطل عليها سكن الباشا ومرافق اخرى ، وقد شهدت السراي في هذا العهد احداث جسام منها الصراع الامريكي الليبي الذي نتج عنها اسر البارجة الحربية فيلادلفيا و طاقمها في عهد يوسف باشا و تحديدا في اكتوبر عام 1803، كما ان ما قام به الاسطول الليبي من اسر للسفن الاوربية ادى الى مهاجمة الفرنسيين و الانجليز على هذه السراي ودكت جدرانها و مبانيها في الكثير من المرات ، وقد شهدت حجرات السراي و اروقتها المؤمرات التي حاكها الباشاوات القرمانليين وابنائهم من اجل كرسي الباشوية و لاسيما يوسف باشا الذي قتل اخيه حسن بك في السراي يوم 20 /7/1790م ،كما صدرت من هذه الكثير من الاوامر للفتك بالخارجين عن سلطة القرمانليين من ليبيين وغيرهم في اماكن شتى من ليبيا و لاسيما الانشقاقات التي يقوم بها افراد الاسرة القرمانليين و غيرهم في بنغازي و درنة و فزان مثل ثورة ابوقيلة ، و ثورة احمد ناصر حاكم فزان والاخير بعد ان قبض عليه باعه احمد باشا في حفلة غريبة في السراي لابنه محمد بفلسين ثم اعاده الى منصبه ، هذه الانتصارات التي يتبعها اطلاق مدفعية السراي 24 طلقة ابتهاجا بتلك الانتصارات ، كما شهدت السراي المذابح و الاغتيالات التي يقوم بها الباشاوات لبعض شيوخ القبائل بعد ان يستدرجونهم للسراي من اجل منحهم البرنوص عنوانا على رضا الباشا عليهم ، هذا البرنوص الذي كان يسعى اليه الكثيرين ، منهم من يتحصل عليه و يخرج سالما من السراي و منهم من يتحصل عليه ويصبح البرنوص كفنه بعد ان يطاح برأسه ، وقد شهدت السراي تدخلات القناصل الاجانب لاسيما الفرنسيين و الانجليز الذين كثيرا ما تدخلوا في شؤون الحكم و املوا شروطهم تساندهم سفنهم الحربية الرابضة قريبا من طرابلس مهددين الباشا بانزال علم بلادهم من سارية القنصلية وهذا اعلانا للحرب على الباشا ، ومن ثم ايقاف المعاهدات التي يجني منها الباشا الاموال الطائلة ، وهذا ما كان يهمهم ، يذكر من هولاء القناصل القنصل الانجليزي وارنجتون (1814-1846) و القنصل الفرنسي روسو. ومن ناحية اخرى رافق القناصل الرحالة الاجانب لتقديمهم للباشا و حصولهم على الفرمانات و رسائل التوصية التي تؤكد دعم الباشا و حمايته لهم في تجوالهم في ليبيا يذكر منهم وليام سميث (1816) و الاخوان بيتشي (1821 ) ، و ريتشي و ليون (1818-1819) وهناك اودني و كلابرتون ونهام (1824) اضافة الى الكسندر لاينج صهر وارنجتون الذي قتل اثناء عودته من تمبكتو كما زار السراي الرحالة الاسباني باديا لبلك المشهور باسم علي بك العباسي (1805-1806) ، كما ان الانجليزية المس تولي التي مكثت عشر سنوات بطربلس (1783-1793) ترددت على السراي و لاسيما مكان الحريم و سجلت بقلمها الكثير من الحوادث والعادات التي كانت شاهدة عيان عليها .
و لم يتغير حال السراي في العهد العثماني الثاني 1835-1912 ، فقد ظلت مكان للولاة الاتراك الذين ترسلهم الاستانة ، كما ظلت مكان يرهبه اهالي طرابلس خوفا من المصير الذي سيلاقوه اذا ما القوا في سجونها و دهاليزها عندما يخالفون اولئك الحكام و لا يذعنون لمطالبهم ، وقد شهدت هذه المرحلة تزايد الثورات المحلية من الزعماء الليبين للخروج عن سلطة الاتراك لعل اشهرها ثورة عبدالجليل في الجنوب و المنطقة الوسطى الذي قتل عام 1842 وجز رأسه وحمل الى السراي ، وهو ذات المصير الذي لاقه رأس الثائر الجبلي غومة المحمودي عام 1858م الذي احتفل بالانتصار عليه و من معه من قبائل الجبل الغربي في السراي الحمراء ، كما شهدت السراي بعض الولاة الذين اهتموا بشؤون الولاية وقاموا ببعض الانجازات المهمة اغلبها ذات طابع عسكري و منها ذو طابع مدني مثل الاعمال التي اقامها المشير علي رضا باشا (1867-1870 ، 1872-1874)، ومن اعماله ترميم مسجد القلعة او السراي .
وعندما احتل الايطاليون طرابلس اصبحت السراي مقرا عسكريا ومقرا للحاكم الايطالي الذي يدير البلاد عسكريا و اداريا و تشهد حجراتها واروقتها عما فعله اولئك الحكام من جرائم في حق الليبيين من خلال الاوامر التي كانوا يصدرونها من تلك السراي امثال بادليو و بالبو، وقد احدث الايطاليون الكثير من الاصلاحات داخلها و شيدوا بها عدة مبانٍ لعل اهمها ما بنوه داخل حصن القديس جورج الذي استغل جزءا منه متحفا عام 1930 الذي اسسه رئيس الآثار جياكومو قويدي و يتكون من 14 قاعة ، وللأسف فقد اتخذ الحاكم الإيطالي بالبو هذا المتحف مقرا لإدارته في عام 1935 و بقت المعروضات في مكانها الى عام 1937 وقد شهدت هذه السراي ما قام به بعض الجنود الايطاليين الذين يملئهم الحقد عند احتلال السراي بالعبث بالوثائق العثمانية التي رمي جزء كبير منها في البحر وعبث بها باشكال متعددة ، ولكي يغطي الايطاليون عما فعله بعضهم اسسوا دار المحفوظات التاريخية التي جمعت فيها الكثير من الوثائق التاريخية التي تهم تاريخ ليبيا و التي ظلت في مكانها تحت اشرافهم ثم تحت اشراف مصلحة الاثار التي صنفتها اخيرا بوسائل تقنية حديثة وذلك قبل ان تنقل الوثائق الى مركز جهاد الليبيين .
كما استغلت السراي الحمراء مقرا لإدارة الخدمات الأثرية في ليبيا التابعة لوزارة المستعمرات منذ عام 1913 وكان أول رئيس لها لوتشيو مارياني (Mariani) و جياكومو بوني (Boni) ، و قد نظمت هذه الإدارة بحيث يكون لها مكتب في طرابلس يشرف على آثار المنطقة الغربية ترأسه سلفاتوري أوريجيما(Aurigemma) ( 1913-1919) ثم بيترو رومانللي (Romanelli)(1920-1923) ثم بارتوتشيني (1923-1928) ثم جياكومو قويدي (1928-1936) ثم جياكومو كابوتو(Caputo) و بيسك (Pesce) ،(1936-1942) وهم الذين اشرفوا على التنقيب في المواقع الاثرية في لبدة وصبراتة وطرابلس وغيرها وكانوا ينقلون الكثير من الاثار التي يعثرون عليها الى السراي الحمراء لتخزينها ، كما عرض بعضها في المتحف الاثري هناك .
و استخدمت السراي في عهد الادارة البريطانية (1943-1951) لاغراض عسكرية و ادارية ومخازن ، و تواصل استخدامها لادارة مصلحة الاثار التي ترأسها هويلير و جودتشايلد وهاينز وغيرهم ، وبعد ذلك ظلت مقرا لمصلحة الاثار الليبية التي تراسها الايطالي ارنستو كافاريللي (1954-1961) الى جانب مجموعة من الخبراء الايطاليين و بعض الموظفين الليبيين و العرب ، و اثناء ادارة كافاريللي وبعده اصبحت السراي بالكامل تحت سيطرة مصلحة الاثار طبقا لقانون الاثار الصادر عام 1953 ، ومنها تم الاشراف على الحفريات في الجزء الغربي من ليبيا ، واعيد تنظيم متحف السراي ما بين 1954-1958 حيث حولت اجزاء كبيرة من قاعات السراي الى متحف عرف باسم متحف السراي الحمراء ، وقد شمل المتحف الكلاسيكي ، ومتحف ما قبل التاريخ (1952) ، ومتحف الأزياء والعاديات (1953) ومتحف التاريخ الطبيعي(1936) ، ومتحف النقوش الكتابية (1952) ، وفي عهد ثورة الفاتح اضيف متحف الجهاد الوطني (1970) ثم اعيد تطوير المتاحف السابقة،و لاسيما عندما ترأس مصلحة الاثار الشهيد عوض السعداوية ثم د. صلاح الدين السوري ، الا ان تلك المتاحف اغلقت ابوابها في الثمانينات عندما شرع في بناء متحف جديد داخل السراي خلال فترة ترأس د. عبدالله شيبوب مصلحة الاثار ، وقد بني المتحف في شارع استحدثه الإيطاليون داخل السراي في الجانب الشمالي الشرقي منها، وقد أشرفت على بنائه منظمة اليونسكو وتجهيزه من الناحية الفنية و المتحفية ، و قد افتتح رسميا للجمهور في 10/9/1988م باسم المتحف الجماهيري ، و تبلغ المساحة الإجمالية للمتحف حوالي عشرة آلاف متر مربع ، ويتكون المتحف من أربعة طوابق متناسبة مع ارتفاع جدران مبنى السراي ، ومنذ سنوات صارت تسميته مجمع متاحف السراي الحمراء ، و قد عرضت به الى جانب معروضات المتاحف السابقة مجموعة من اللقى والآثار من أغلب المدن والمواقع الأثرية في ليبيا التي تعبر عن التاريخ الحضاري للشعب الليبي ، لتحقيق الهدف الذي أنشىء من أجله هذا المتحف ليكون شاهدا على حضارة الإنسان الليبي عبر العصور حتى العصر الحديث و المعاصر.
هذه حكاية السراي الحمراء التي عكست جزء من التاريخ السياسي لهذه المدينة من خلال الحكام الذين احتموا بالسراي لحكم اهالي طرابلس و ليبيا بصورة عامة ثم اصبحت مشعلا للحضارة الليبية عبر التاريخ بما تحتويه متاحفها من آثار و دار محفوظاتها من وثائق .
لعل ابرز ما يميز مدينة طرابلس القديمة قلعتها المطلة على البحر في جنوب شرقي المدينة ، و المجاورة حاليا للساحة الخضراء ، هذه القلعة التي يجاوز عمرها اكثر من 500 عام ظلت تقاوم الزمن لتروي فصول مهمة من التاريخ الحديث و المعاصر لمدينة طرابلس ، وقد اشتهرت القلعة بانها كانت مقرا للحكام الاتراك وانها بنيت باحجار حمراء اللون او ان جدرانها كانت تطلى باللون الاحمر ومن ثم فقد استحقت تسميتها السراي الحمراء .
ومدينة طرابلس التي كانت تعرف باسم اويا او اويات اسست بواسطة الفينقيين في القرن الخامس ق.م. ثم تمكن الرومان من الاستيلاء عليها في نهاية القرن الاول ق.م.اعقبهم البيزنطيين في القرن الرابع الميلادي ثم الوندال عام 455م ثم اعاد البيزنطيين الاستيلاء عليها في 534 م واخيرا فتحها العرب المسلمون عام 643م وظلت عربية اسلامية الى عصرنا الحاضر ، وعلى الرغم من الشعوب القديمة التي تتابعت على استيطانها الا ان المعالم الاثرية التي ترجع اليهم تعد قليلة بسبب تواصل الاستيطان بها الى الوقت الحاضر ، ومن ناحية اخرى يرجح ان المكان الذي بنيت عليه قلعة طرابلس (السراي) كان مشغولا باحد المباني الرومانية (ربما حمامات عامة) ، كما يبدو ان البيزنطيين بعد ان طردوا الوندال من طرابلس عام 534 م اقاموا قلعة او حصن لحماية المدينة ، الذي كان يمثل جزء من تحصيناتها ، وهي ذات التحصينات التي وجدها المسلمون واضافوا اليها ، و استمرت مستعملة في العصور الاسلامية المختلفة حيث كانت مركزاً لحكام طرابلس من اغالبة وموحدين و حفصيين والاخيرين اهتموا بتحصينات طرابلس و تدعيمها قد يكون من بينها القلعة على الرغم من ان الرحالة التيجاني الذي زارها ما بين 1307-1308 م يشير الى تردي حالتها ، ويبدو ان هذا كان دافعا للاسبان الذين احتلوا طرابلس في 25 /7/ 1510 بقيادة الكونت بيترو دي نافارو لاعادة بنائها لتكون حصناً يحميهم من الطرابلسيين و التواجير الذين قاوموا ذلك الاحتلال ، ويرجع الشكل الحالي العام للقلعة او السراي الى الاعمال التي قام بها الاسبان حيث بنوا او جددوا الحصن او البرج الجنوبي الذي اسموه حصن القديس جورج الذي يقابل حاليا شارع امحمد المقريف والذي يشبه في شكله مقدمة السفينة ، كما بنوا الحصن الغربي الذي اسموه حصن القديس يعقوب و الذي يقع حاليا قرب برج الساعة ، وهذين الحصنين او البرجين يواجهان المدينة حيث يسكن الاهالي المقاومين لهم ، وهناك جدار ضخم يمتد بين الحصنين و يشكل الجانب الجنوبي الغربي للقلعة و يمتد هذا الجانب مسافة 130 مترا ، و يتوسطه المدخل الرئيسي للقلعة ، وهناك جدار اخر يشكل الجانب الجنوبي الشرقي يمتد مسافة 140 مترا و الذي ينتهي ببرج اطلق عليه فرسان مالطا الذين بنوه اسم القديس جاكمو ، ويجاور هذا الجدار ساحة اطلق عليها الاسبان ساحة القديسة باربرة التي يطل عليها مسكن الوالي و مخزن الذخيرة ، كما يوجد جدارا على الجانب الشمالي الشرقي يمتد لمسافة 115 مترا ، اضافة الى الجدار الشمالي الغربي الممتد مسافة 90 مترا الذي يتوسطه من الداخل كنيسة بناها فرسان مالطا عرفت باسم كنيسة ليوناردو ، وبهذا فان السراي تتكون من اربعة اضلاع وتشغل مساحة 13 الف متر مربع تقريبا ، استقرت بها الحامية الاسبانية المعتدية الذين شيدوا اغلب مبانيها من حجارة سور مدينة طرابلس و بعض مباني طرابلس الاخرى، وعندما زار الحسن الوزان (ليو الافريقي ) طرابلس و صف السراي بانها ذات اسوار ضخمة ومزودة بمدفعية ، وعلى الرغم من هذا فان السراي او القلعة ذكرت في تقرير في شهر اكتوبر عام 1524 بانها تحتاج الى صيانة وترميم اسوارها وانها لن تصمد امام المدفعية القوية .
وقد سلم الاسبان طرابلس الى ما يعرف باسم فرسان مالطا منذ عام 1530 الذين استقروا بها حتى عام 1551 ، وقد اتخذ هولاء السراي حصنا لهم و لذا فقد اهتموا بها حيث قاموا ببعض الاصلاحات واضافوا بعض الاضافات التي تعزز مقاومتها لخطر اهالي طرابلس من البر ، و الاسطول العثماني ـ الذي يجوب البحر المتوسط ـ بحرا ، و الذي افلح في 14 /8/1551 من طرد فرسان مالطا واعادة هذه السراي الى وجهها الاسلامي بعد ان حاول الاسبان و فرسان مالطا ان يجعلوها مسيحية ، فقد حولت الكنيسة الى مسجد في عهد مراد آغا عرف باسم مسجد القلعة او مسجد الجند ، ولقد اهتم العثمانيون بهذه السراي و ادخلوا عليها الكثير من الاصلاحات واستقر بها الحكام الاتراك والحامية التركية خلال العهد العثماني الاول 1551-1711 ، وكانت تحوي الكثير من المنشأت و المباني لاقامة الولاة الاتراك و حاشيتهم و جنودهم الذي يعززون سيطرة الدولة العثمانية على هذا الجزء من الشمال الافريقي ، وينطلقون منها لجمع الضرائب من الاهالي الذين برزحون تحت سيطرة الاتراك اخوانهم في الدين . وقد كانت السراي محصنة بطريقة جيدة اضافة الى اسوارها وابراجها التي كانت تعلوها عشرات المدافع زد على ذلك خندق مائي يحيط بها من ثلاث جهات اضافة الى البحر من الناحية الشرقية .
وخلال سيطرة القرمانليين على سدة الحكم في طرابلس ما بين 1711-1835 استقر بالسراي باشاواتهم الذين كان من اشهرهم احمد باشا وعلي باشا و يوسف باشا و قد شهدت السراي عدة اضافات في عهدهم حيث اصبح للباشا منزل خاص به و لاسرته ، وهناك ما يعرف باسم الردهة القرمانلية المتكونة من طابقين و يطل عليها سكن الباشا ومرافق اخرى ، وقد شهدت السراي في هذا العهد احداث جسام منها الصراع الامريكي الليبي الذي نتج عنها اسر البارجة الحربية فيلادلفيا و طاقمها في عهد يوسف باشا و تحديدا في اكتوبر عام 1803، كما ان ما قام به الاسطول الليبي من اسر للسفن الاوربية ادى الى مهاجمة الفرنسيين و الانجليز على هذه السراي ودكت جدرانها و مبانيها في الكثير من المرات ، وقد شهدت حجرات السراي و اروقتها المؤمرات التي حاكها الباشاوات القرمانليين وابنائهم من اجل كرسي الباشوية و لاسيما يوسف باشا الذي قتل اخيه حسن بك في السراي يوم 20 /7/1790م ،كما صدرت من هذه الكثير من الاوامر للفتك بالخارجين عن سلطة القرمانليين من ليبيين وغيرهم في اماكن شتى من ليبيا و لاسيما الانشقاقات التي يقوم بها افراد الاسرة القرمانليين و غيرهم في بنغازي و درنة و فزان مثل ثورة ابوقيلة ، و ثورة احمد ناصر حاكم فزان والاخير بعد ان قبض عليه باعه احمد باشا في حفلة غريبة في السراي لابنه محمد بفلسين ثم اعاده الى منصبه ، هذه الانتصارات التي يتبعها اطلاق مدفعية السراي 24 طلقة ابتهاجا بتلك الانتصارات ، كما شهدت السراي المذابح و الاغتيالات التي يقوم بها الباشاوات لبعض شيوخ القبائل بعد ان يستدرجونهم للسراي من اجل منحهم البرنوص عنوانا على رضا الباشا عليهم ، هذا البرنوص الذي كان يسعى اليه الكثيرين ، منهم من يتحصل عليه و يخرج سالما من السراي و منهم من يتحصل عليه ويصبح البرنوص كفنه بعد ان يطاح برأسه ، وقد شهدت السراي تدخلات القناصل الاجانب لاسيما الفرنسيين و الانجليز الذين كثيرا ما تدخلوا في شؤون الحكم و املوا شروطهم تساندهم سفنهم الحربية الرابضة قريبا من طرابلس مهددين الباشا بانزال علم بلادهم من سارية القنصلية وهذا اعلانا للحرب على الباشا ، ومن ثم ايقاف المعاهدات التي يجني منها الباشا الاموال الطائلة ، وهذا ما كان يهمهم ، يذكر من هولاء القناصل القنصل الانجليزي وارنجتون (1814-1846) و القنصل الفرنسي روسو. ومن ناحية اخرى رافق القناصل الرحالة الاجانب لتقديمهم للباشا و حصولهم على الفرمانات و رسائل التوصية التي تؤكد دعم الباشا و حمايته لهم في تجوالهم في ليبيا يذكر منهم وليام سميث (1816) و الاخوان بيتشي (1821 ) ، و ريتشي و ليون (1818-1819) وهناك اودني و كلابرتون ونهام (1824) اضافة الى الكسندر لاينج صهر وارنجتون الذي قتل اثناء عودته من تمبكتو كما زار السراي الرحالة الاسباني باديا لبلك المشهور باسم علي بك العباسي (1805-1806) ، كما ان الانجليزية المس تولي التي مكثت عشر سنوات بطربلس (1783-1793) ترددت على السراي و لاسيما مكان الحريم و سجلت بقلمها الكثير من الحوادث والعادات التي كانت شاهدة عيان عليها .
و لم يتغير حال السراي في العهد العثماني الثاني 1835-1912 ، فقد ظلت مكان للولاة الاتراك الذين ترسلهم الاستانة ، كما ظلت مكان يرهبه اهالي طرابلس خوفا من المصير الذي سيلاقوه اذا ما القوا في سجونها و دهاليزها عندما يخالفون اولئك الحكام و لا يذعنون لمطالبهم ، وقد شهدت هذه المرحلة تزايد الثورات المحلية من الزعماء الليبين للخروج عن سلطة الاتراك لعل اشهرها ثورة عبدالجليل في الجنوب و المنطقة الوسطى الذي قتل عام 1842 وجز رأسه وحمل الى السراي ، وهو ذات المصير الذي لاقه رأس الثائر الجبلي غومة المحمودي عام 1858م الذي احتفل بالانتصار عليه و من معه من قبائل الجبل الغربي في السراي الحمراء ، كما شهدت السراي بعض الولاة الذين اهتموا بشؤون الولاية وقاموا ببعض الانجازات المهمة اغلبها ذات طابع عسكري و منها ذو طابع مدني مثل الاعمال التي اقامها المشير علي رضا باشا (1867-1870 ، 1872-1874)، ومن اعماله ترميم مسجد القلعة او السراي .
وعندما احتل الايطاليون طرابلس اصبحت السراي مقرا عسكريا ومقرا للحاكم الايطالي الذي يدير البلاد عسكريا و اداريا و تشهد حجراتها واروقتها عما فعله اولئك الحكام من جرائم في حق الليبيين من خلال الاوامر التي كانوا يصدرونها من تلك السراي امثال بادليو و بالبو، وقد احدث الايطاليون الكثير من الاصلاحات داخلها و شيدوا بها عدة مبانٍ لعل اهمها ما بنوه داخل حصن القديس جورج الذي استغل جزءا منه متحفا عام 1930 الذي اسسه رئيس الآثار جياكومو قويدي و يتكون من 14 قاعة ، وللأسف فقد اتخذ الحاكم الإيطالي بالبو هذا المتحف مقرا لإدارته في عام 1935 و بقت المعروضات في مكانها الى عام 1937 وقد شهدت هذه السراي ما قام به بعض الجنود الايطاليين الذين يملئهم الحقد عند احتلال السراي بالعبث بالوثائق العثمانية التي رمي جزء كبير منها في البحر وعبث بها باشكال متعددة ، ولكي يغطي الايطاليون عما فعله بعضهم اسسوا دار المحفوظات التاريخية التي جمعت فيها الكثير من الوثائق التاريخية التي تهم تاريخ ليبيا و التي ظلت في مكانها تحت اشرافهم ثم تحت اشراف مصلحة الاثار التي صنفتها اخيرا بوسائل تقنية حديثة وذلك قبل ان تنقل الوثائق الى مركز جهاد الليبيين .
كما استغلت السراي الحمراء مقرا لإدارة الخدمات الأثرية في ليبيا التابعة لوزارة المستعمرات منذ عام 1913 وكان أول رئيس لها لوتشيو مارياني (Mariani) و جياكومو بوني (Boni) ، و قد نظمت هذه الإدارة بحيث يكون لها مكتب في طرابلس يشرف على آثار المنطقة الغربية ترأسه سلفاتوري أوريجيما(Aurigemma) ( 1913-1919) ثم بيترو رومانللي (Romanelli)(1920-1923) ثم بارتوتشيني (1923-1928) ثم جياكومو قويدي (1928-1936) ثم جياكومو كابوتو(Caputo) و بيسك (Pesce) ،(1936-1942) وهم الذين اشرفوا على التنقيب في المواقع الاثرية في لبدة وصبراتة وطرابلس وغيرها وكانوا ينقلون الكثير من الاثار التي يعثرون عليها الى السراي الحمراء لتخزينها ، كما عرض بعضها في المتحف الاثري هناك .
و استخدمت السراي في عهد الادارة البريطانية (1943-1951) لاغراض عسكرية و ادارية ومخازن ، و تواصل استخدامها لادارة مصلحة الاثار التي ترأسها هويلير و جودتشايلد وهاينز وغيرهم ، وبعد ذلك ظلت مقرا لمصلحة الاثار الليبية التي تراسها الايطالي ارنستو كافاريللي (1954-1961) الى جانب مجموعة من الخبراء الايطاليين و بعض الموظفين الليبيين و العرب ، و اثناء ادارة كافاريللي وبعده اصبحت السراي بالكامل تحت سيطرة مصلحة الاثار طبقا لقانون الاثار الصادر عام 1953 ، ومنها تم الاشراف على الحفريات في الجزء الغربي من ليبيا ، واعيد تنظيم متحف السراي ما بين 1954-1958 حيث حولت اجزاء كبيرة من قاعات السراي الى متحف عرف باسم متحف السراي الحمراء ، وقد شمل المتحف الكلاسيكي ، ومتحف ما قبل التاريخ (1952) ، ومتحف الأزياء والعاديات (1953) ومتحف التاريخ الطبيعي(1936) ، ومتحف النقوش الكتابية (1952) ، وفي عهد ثورة الفاتح اضيف متحف الجهاد الوطني (1970) ثم اعيد تطوير المتاحف السابقة،و لاسيما عندما ترأس مصلحة الاثار الشهيد عوض السعداوية ثم د. صلاح الدين السوري ، الا ان تلك المتاحف اغلقت ابوابها في الثمانينات عندما شرع في بناء متحف جديد داخل السراي خلال فترة ترأس د. عبدالله شيبوب مصلحة الاثار ، وقد بني المتحف في شارع استحدثه الإيطاليون داخل السراي في الجانب الشمالي الشرقي منها، وقد أشرفت على بنائه منظمة اليونسكو وتجهيزه من الناحية الفنية و المتحفية ، و قد افتتح رسميا للجمهور في 10/9/1988م باسم المتحف الجماهيري ، و تبلغ المساحة الإجمالية للمتحف حوالي عشرة آلاف متر مربع ، ويتكون المتحف من أربعة طوابق متناسبة مع ارتفاع جدران مبنى السراي ، ومنذ سنوات صارت تسميته مجمع متاحف السراي الحمراء ، و قد عرضت به الى جانب معروضات المتاحف السابقة مجموعة من اللقى والآثار من أغلب المدن والمواقع الأثرية في ليبيا التي تعبر عن التاريخ الحضاري للشعب الليبي ، لتحقيق الهدف الذي أنشىء من أجله هذا المتحف ليكون شاهدا على حضارة الإنسان الليبي عبر العصور حتى العصر الحديث و المعاصر.
هذه حكاية السراي الحمراء التي عكست جزء من التاريخ السياسي لهذه المدينة من خلال الحكام الذين احتموا بالسراي لحكم اهالي طرابلس و ليبيا بصورة عامة ثم اصبحت مشعلا للحضارة الليبية عبر التاريخ بما تحتويه متاحفها من آثار و دار محفوظاتها من وثائق .
هناك 3 تعليقات:
الأخ الكريم خالد
هل المربع الموجود فوق القوس الصغير يرمز الى شىء معين
فى مجموعة على الفيسبوك و من ضمنهم مهندسين ليبيين تتسأل عن ذلك
شكرا بتزويدنا
بالمعلومات بما انك مختص فى الآثار
لقد اجرت السلطات الإيطالية تعديلات وإضافات في السراي الحمراء بين سنتى 1922-1924 وأوجدوا المزولة الشمسية على جدار ها في سنة 1923 وهي ساعة شمسية تبين فصول السنة والساعة عن طريق ظل سهم يتوسط الحافة العليا للوحة الرخامية كما زودوا ردهات السراي بمجموعة من النافورات جلبت من بعض منازل المدينة ومن خارجها وفِي ثمانينات القرن المنصرم أزيل المتحف الكلاسيكي المطل على النفق وبنوا بداخله متحفا جديدا نفذته شركة سكانسكا السويدية وعرف باس المتحف الجماهيري ثم استبدل الاسم بمجمع متاحف السراي الحمراء.
بقلم سعيد حامد
إرسال تعليق