على الرغم من ان الانسان لم يعرف سك العملة المعدنية والتعامل بها الا في القرن السابع ق.م. تقريبا ، الا ان تلك القطع المعدنية المعلومة الوزن و المختلفة قيمتها باختلاف معدنها ، والتي اصبحت تحمل صورا ورموزا وكتابات رسمية تعكس نواح سياسية واقتصادية ودينية و فنية و غيرها ، تلك العملة اصبح لها دور كبير وفعال في علم الاثار ، حيث يعول عليها الاثريون كثيرا في تاريخ الطبقات الاثرية وتاريخ اللقى الاخرى التي توجد في ذات الطبقة من فخار و منحوتات وغيرها ، ولعل العملة الرومانية الامبراطورية من ابرز العملات القديمة التي لها اهمية كبيرة بما تحويه من رسومات متنوعة وصور شخصية للاباطرة و بعض افراد اسرهم ، ، كما ان حرص الاباطرة على ان تحمل العملة كتابات تتعلق بالقابهم الرسمية ومناصبهم و تاريخ توليهم لها ، كلها ساعدت في تحديد تاريخ اصدارتهم النقدية بكل دقة ، ومن ثم اصبحت العملات الرومانية يعول عليها من حيث تأريخ المكتشفات الاثرية المصاحبة لها . و لا يعول الاثري على القطعة الواحدة او القطعتين التي توجد في الطبقة الاثرية لانه يخشى الا تكون في مكانها الاصلي لان العملة سهل تحريكها ونقلها من مكان الى آخر ، لهذا فانه يتعامل معها بحرص لكي يعتمدها معيارا للتأريخ . كما يمكن ان يعثر على العملات باعداد كبيرة مع بعضها قد تكون داخل جرة او محفوظة في شيء ما ، وهذه العملات مجتمعة يطلق عليها عادة اسم كنز لانه عادة وضعت مع بعضها لغرض اكتنازها بحيث يطمرها صاحبها لكي يرجع اليها او يستردها فيما بعد واحيانا وفي قليل من المرات يصعب على صاحبها استردادها بسبب موته او نسيانه لمكانها لذا يظل الكنز في مكانه الى ان تأتي معاول الاثريين او تلعب المصادفة الدور في اكتشافها بعد ان مر عليها فترة طويلة بالزمن ، وهي بهذا تصبح دليل تاريخي للمكان الذي وجدت به ويمكن الوثوق في التاريخ الذي يستنتج من خلال تاريخ احدث عملة اضيفت الى الكنز اذا كان الكنز يتكون من عملات ترجع الى فترات تاريخية مختلفة ، اما اذا كانت متجانسة فان تاريخها يعد تاريخ تخزينها او اخفائها في باطن الارض ، ومن ثم تصبح قرينة تاريخية تساعد في تأريخ المخلفات الاثرية التي تعلوها وهي تعد احدث منها زمنيا ، اما المخلفات التي اسفل منها فهي تعد اقدم منها.
وبعد هذه التوطئة لاهمية العملات و لاسيما التي تكون في شكل كنز ، نأتي للحديث عن اهم الكنوز التي اكتشفت في ليبيا ، ولعل من اهمها ذلك الكنز الذي عثر عليه في منطقة الدافنية بمصراته بتاريخ 17/2/1981م ، وقد تكون من 100000 قطعة عملة برونزية عثر عليها مخزنا في جرار كبيرة وصغيرة ، وهو يعد اكبر كنز من العملة يعثر عليه في العالم اذ يبلغ وزنه ستة اطنان ، ويؤرخ ما بين 294-333م ، وقد عرض جزء منه في متاحف السراي الحمراء بطرابلس و جزء آخر في متحف لبدة ، وجزء في متحف مصراته. كما ان هناك كنز من العملة البرونزية عثر عليه في البحر ما بين صبراته و زوارة في منطقة المنقوب عام 1923 و 1938 بلغ عددها 20000 قطعة ، يرجع تاريخ تلك العملة الى عهد الامبراطور ماكسميان (306-312 م) ، يعرض جزء منها في متحف صبراته الكلاسيكي ، وجزء آخر في مجمع متاحف السراي الحمراء. اما في الجزء الشرقي من ليبيا فقد عثر على مجموعة من كنوز العملة الرومانية منها الكنز المتكون من 243 قطعة برونزية عثر عليها الايطالي كاتاني يوم 14/10/1916م في منزل جنوب الاجورا في شحات (قوريني = كيريني قديما) ، و آخر عثر عليه جودتشايلد في شهر مايو 1956 في حفرياته في منزل متواضع قرب مسرح حرم اسكلبيوس بمدينة بلجرا القديمة (البيضاء حاليا) ، وهو يتكون من 259 قطعة عملة برونزية صغيرة تؤرخ ما بين 350 – 361 م ، وهناك كنز آخر عثر عليه مؤخرا في حفريات قسم الاثار بجامعة عمر المختار بمدينة بلجرا ايضا ، اضافة الى كنز عثر عليه داخل جرة عثر قرب البحر غرب مدينة بنغازي ، و اخيرا الكنز الذي عثر عليه في مدينة طلميثة الاثرية (بطوليمايس قديماً) .
و الكنز الاخير الذي عثرت عليه البعثة الاثرية البولندية اثناء حفرياتها في طلميثة عام 2006 في دارة ترجع الى القرن الثالث الميلادي وتحديدا في الناحية الجنوبية من الدارة حيث كشف عن جناح خدمي صناعي يتكون من عدة حجرات عثر في احداها على كنز من العملة الرومانية ، عددها 568 قطعة اغلبها من البرونز (553) باستثناء 15 قطعة من الفضة ، ويبدو ان الكنز كان مخزنا في كيس او جراب صُنع من مادة عضوية زادت في تحلل القطع و اثرت على حالتها حيث وجدت في حالة سيئة من الحفظ يعلوها الصدأ ، وكانت بعض العملات ملتصقة ببعضها ، وقد اجريت على ذلك الكنز صيانة و ازالة للصدأ الذي تجمع على معدن عملاته ، وقد امكن بعد ذلك معرفة ملامحها و تاريخها ، وقد عرض هذا الكنز في جامعة وارسو البولندية بتاريخ 18/12/2008م في شكل نماذج وقطع اصلية ، ونتنمى ان يعرض في فترة قريبة في ليبيا.
وتجرى حاليا دراسة دقيقة لتلك العملات من المؤكد انها سوف تقدم معلومات جديدة عن اقتصاد الاقليم و تطوره النقدي ، ونسبة تدفق النقد الامبراطوري على الاقليم ، اضافة الى نسبة الاصدارات المحلية ومميزاتها.
وقد نشر القائمين على دراسة ذلك الكنز بعض النتائج الاولية العامة نشرت في التقرير الاولي الذي اعد عن حفريات موسم 2006 و الذي متاحا في موقع البعثة على الشبكة العنكبوتية (www)، وقد امكن من خلالها التوصل الى الاتي: ان ذلك الكنز يتكون من قطع مختلفة زمنيا ترجع لعدد من الاباطرة الرومان ، فالقطع الفضية ترجع جميعها الى عهد الاسرة الانطونينية (138-192م) باستثناء واحدة ترجع الى عهد الامبراطور كاراكلا (211-217م). اما العملات البرونزية فقد سكت اغلبها في مدينة روما باستثناء قطعتين سكتا في مدينة قوريني احداهما ترجع الى الامبراطور تراجان (98-117م) و الاخرى ترجع الى عهد الامبراطور ماركوس اوريليوس (161-180م) و قد تميزت ان ظهرها قد حمل صورة لرأس المؤله زيوس امون ، اضافة الى صورة الامبراطور على وجه العملة.
من اقدم عملات الكنز تلك التي ترجع الى الامبراطورين تراجان وهادريان (98-138م)وكانت حالتها سيئة وملامحها غير واضحة ، يليها زمنيا مجموعة كبيرة من العملات التي ترجع الى عهد الاسرة الانطونينية اي الاباطرة انطونيوس بيوس (138-161م) و ماركوس اوريليوس(161-180م) وكومودوس(180-192م) ، وهناك مجموعة من العملات التي ترجع الى عهد الاسرة السيفيرية (211-235م) لا سيما تلك التي ترجع الى عهد الامبراطور سبتيموس سيفيروس (193-211م)، كما ظهرت مجموعة معتبرة من العملة التي ترجع الى الامبراطور الاسكندر سفيروس (222-235م) منها 12 قطعة تحمل صورة زوجته الامبراطورة جوليا مامايا. وهناك عدة قطع ترجع الى عهد الامبراطور بالبينوس (238م) واخرى للامبراطور ماكسيمنوس ثراكس (235-238م) و ابنه ماكسيموس، وهناك كمية كبيرة (اكثرمن 100 قطعة) من العملات ترجع الى عهد الامبراطور جورديان الثالث (238-244م) ، ومجموعة من العملة ترجع الى الامبراطور فيليب العربي (244-249م) وابنه فيليب الثاني ، وعملة ترجع الى الامبراطور تريبونانوس جالوس (251-253م)وعملات هذا الامبراطور احدث عملات هذا الكنز من الناحية الزمنية ، ومن ثم لا توجد عملات سكت بعد عام 251م تقريبا ضمن عملات كنز طلميثة ، وبمعنى آخر فان المجال الزمني لعملات ذلك الكنز يبدأ من نهاية القرن الاول وبداية القرن الثاني (عملات تراجان) وينتهي بمنتصف القرن الثالث الميلادي (عملة الامبراطورجالوس).
وبطبيعة الحال يطرح هذا الكنز عدة تساؤلات منها ما هي الظروف التي جعلت مالك الكنز يضعه في المكان الذي وجد به ؟ ولماذا لم يسترد هذا الكنز و ابقاه في مكانه ؟ وما هي الفترة الزمنية التي استغرقها تجميعه؟ من المؤكد ان التخمين والحدس يلعب الدور الاكبر في الاجابة على بعض تلك الاسئلة ، حيث يرجح ان صاحب الكنز له علاقة بالمكان الذي وجد به الكنز حيث كانت تمارس بعض الانشطة الاقتصادية والصناعية في الحجرات القريبة من مكان الكنز . ويبدو ان مالكه لم يستطع استرداده بعد كارثة حدثت منعته من الاستفادة منه وظل في مكانه ، واقرب حادثة قد يكون زلزال 262 م او زلزال او كارثة وقعت بعد عام 251 وهو تاريخ اخر قطعة عملة في الكنز. ويبدو ان صاحب الكنز كانت اكثر فترة نشاطه المالي في عصر الامبراطور جورديان الثالث(238-244م) لان الكنز احتوى على عدد كبير من العملات التي ترجع الى هذه الفترة.
وقد عد الدارسين لهذا الكنز انه اول دليل اثري ظهر في الاقليم يؤكد حدوث زلزال عام 262م او زلزال منتصف القرن الثالث الميلادي، قياسا على الكنز الذي عثر عليه في بلجرا (البيضاء) عام 1956 و الاخر الذي عثر عليه قرب الاجورا في قوريني عام 1916 و التي برهنت على حدوث زلزال عام 365 م وفقا لدراسة جودتشايلد التي نشرت عام 1966.
واذا كان زلزال عام 365 م مبرهن عليه من خلال المصادر الادبية مثل ما كتبه لبيانوس و مارسيلينوس و سان جيروم ، مدعما بادلة اثرية من خلال المباني التي دمرت في قوريني و طلميثة وتوكرة ، وادلة من النقوش حيث وضح نقش في مقبرة ديمتريا انها ماتت مع ابنها ثيودولوس في زلزال ، من المؤكد انه زلزال 365 وفقا لشكل حروف النقش. لكن زلزال عام 262 م لم توجد ادلة مادية تبرهن عليه اعني لم يستطع المنقبون العثور على ادلة مباشرة تؤكد ان هذا المبنى او ذاك قد تعرض للدمار نتيجة زلزال 262م او زلزال منتصف القرن الثالث الميلادي، وهناك بعض الترجبحات ليس الا . واذا كان هذا الكنز يبرهن على حدوث ذلك الزلزال فهل وجد المنقبون في طلميثة اية ادلة تؤكد حدوث تصدع في المبنى و انهيار جدرانه واعمدته جراء زلزال 262م او قبله ، واذا وجدوا هذا فان الكنز يعد دليلا اضافيا على حدوث ذلك الزلزال ، واذا لم يجدوا فان الكنز لوحده غير كاف دليل لحدوث الزلزال.
هناك تعليق واحد:
بارك الله فيك على المعلومات يا استاذ
إرسال تعليق