إن ما يشاهده الزائر للمدن الأثرية في ليبيا مثل شحات وطلميثة ولبدة وصبراتة قد لا يخطر على باله إن معالم تلك المدن الماثلة للعيان لم تكن تبدو كذلك قبل الحفريات التي أجريت بعد الاحتلال الايطالي لليبيا عام 1911 والتي صاحبها أعمال ترميم أبرزت المعالم الكلاسيكية و لاسيما الرومانية منها لأهداف سياسية وترسيخ فكرة الرومنة والربط بين سيطرة الرومان على ليبيا قديما بالاستعمار الايطالي الحديث، وانطلاقا من هذا فإن الفضل في التنقيب عن الآثار في ليبيا يرجع إلى الايطاليين ، فهم من وضع الأساس لمصلحة الآثار وتنظيم الإشراف على العمل الأثري في المواقع الأثرية وإقامة المتاحف ، لكن ما فعله الايطاليون في هذا المجال كانت له إرهاصات أولى تمثلت فيما قام به القناصل الأجانب والرحالة من أعمال ساعدت على التعرف على المدن الأثرية التي كانت مجهولة، وفي هذا المقام يشار إلى القنصل الفرنسي لو مير الذي يعد أول أوربي يزور شحات عام 1705-1706 وزار قبلها لبدة، وهناك القنصل البريطاني وارنجتون الذي أرسل أول بعثة للتنقيب في شحات عام 1826 ، كما إن جهود الرحالة ديلا شيلا عام 1817 والأخوين بيتشي ما بين 1821-1822 و باشو مابين عام 1824-1825 كانت لها أصداء كبيرة ودفعت الكثير إلى استهداف زيارة المواقع الأثرية الليبية للحفر بها مثلما فعل القنصل الفرنسي دو بورفيّل عام 1847 ثم سميث و بورتشر ما بين 1860-1861 ثم جورج دينس ما بين 1864-1868، وقد نتج عن الأعمال الأخيرة استخراج كميات كبيرة من المقتنيات الأثري ونقلها إلى متاحف أوروبة ، والكشف عن أساسات الكثير من المباني بطريقة اقل ما توصف إنها غير علمية. وهكذا كان الحال حتى عام 1910 الذي يمثل وصول أول بعثة علمية أمريكية برئاسة نورتون للتنقيب في شحات،وأثناء الاحتلال الايطالي لم يسمح الايطاليون لغيرهم بالتنقيب عن الآثار بل هم كانوا سادة الموقف ونظموا شؤون الآثار حتى عام 1943 ، ثم أديرت المصلحة بالانجليز والايطاليين في فترة الإدارة العسكرية البريطانية. وبعد استقلال ليبيا استعين بالأجانب أيضا في إدارة شؤون الآثار وخير مثال على ذلك الايطالي كافاريللي في المنطقة الغربية ما بين 1952-1961 و جودتشايلد ما بين 1953-1967.
و قد لاحظ جوتشايلد ضخامة العمل الذي يجب أن يجرى في آثار المنطقة الشرقية وكانت إدارته غير قادرة على ذلك فاستعان بالبعثات الأجنبية للتنقيب في ليبيا وفعل كافاريللي الشيء ذاته في المنطقة الغربية ، وفي المنطقة الاخيرة بدأت كينون حفرياتها في صبراتة عام 1948 ، إضافة الى ماكبرني ومسوحه وحفرياته في آثار ما قبل التاريخ في ليبيا، وهناك البعثة الفرنسية التي بدأت منذ عام 1953 و الايطالية منذ عام 1957 ومنذئذ احتكرت البعثات التنقيب عن الآثار، حيث تعددت البعثات الايطالية في تخصصات مختلفة من ما قبل التاريخ إلى الآثار الإسلامية ، وعملت البعثة الفرنسية منذ عام 1976 ما بين سوسة ولاثرون ولبدة وسرت الإسلامية ومشروع وديان المنطقة الوسطى،وهناك البعثة الأمريكية في شحات منذ عام 1969، والبولندية في طلميثة ، واليابانية في توكرة ، وعدة بعثات ألمانية في لبدة وطلميثة وفي الصحراء ، وجمعية الدراسات الليبية في لندن وعملها في يوسبريدس وبيرنيكي وطلميثة والمرج ومشروع مسح الأودية الليبية ، وهوا افطيح ، وفي فزان ثم في غدامس. ومن هنا فان البعثات الأجنبية هي من تنقب عن الآثار ولها اليد الطولى في هذا المجال وتنافست فيما بينها للاستحواذ على اكبر قدر من المواقع الأثرية ، ولعل مرد هذا أن مصلحة الآثار لم تنظم أعمال التنقيب بل سارت على خطى السابقين في تمكين البعثات من العمل الأثري في ليبيا وكأن المصلحة ألقت بعبء التنقيب عن كاهلها لتسلمه لتلك البعثات ، ولكن هذا لا يعني إن باحثي المصلحة وخبرائها لم يسهموا في الكشف عن الآثار حيث جلهم قد شارك مع البعثات في حفرياتها، كما أنهم قادوا أعمال الكشف لاسيما في المقابر التي تظهر بالمصادفة، وما يعاب عن غالبية تلك الأعمال إنها لم تستكمل بعمل دراسات عنها ثم نشرها ، وغالبا ما أنتجه أولئك المنقبون يذهب لقمة سائغة لأعضاء البعثات الأجنبية لدراسته ونشره بلغاتهم (مقابر لبدة وسوسة مثلا)، والواقع كنا نتمنى أن لا يحدث هذا وأن يستكمل المنقبين أعمالهم بدراسة اكتشافاتهم وجلهم قادرين على ذلك. وغالبية أولئك الباحثين هم نتاج أقسام الآثار بالجامعات الليبية التي تعلموا فيها التنقيب عن طريق الحفريات التدريبية التي بدأها قسم الآثار بالجامعة الليبية منذ عام 1971 في مدينة توكرة والتي لا تزال مستمرة ، وقد نجحت تلك الحفريات بمشرفيها في تدريب الطلاب على التنقيب. وخلاصة القول نحن في حاجة إلى خطة علمية مدروسة من اجل تكوين فرق علمية ليبية للتنقيب عن الآثار وتشجيع العنصر الوطني مع الاستفادة من العناصر الأجنبية ولكن تحت مظلة ليبية، فلماذا لا يتم تكوين بعثات تنقيب ليبية يستعان فيها ببعض الخبراء الأجانب وليس خلاف ذلك.
هناك تعليقان (2):
جهد رائع تشكر عليه أستاذ خالد ، مع التمنيات لك بالتوفيق ...
أشكرك على هذا المجهود الطيب لإنارة عقولنا فيما يخص الآثار الليبية وكذالك لجلب إنتباه المجتمع والمسؤلين لإدلراك أهميتها كجزء من تاريخ البلاد وكدليل على ذالك التاريخ.
إرسال تعليق