نشرت المقالة في العدد 9 من صحيفة افاق اثرية الصادر في مايو2012
مدينة بيرنيكي الأثرية (بنغازي)
الحلقة الأولى: في الكشف عن آثارها
أ. خالد محمد الهدار
سبقت الإشارة في دراسة سابقة نشرت في صحيفة آفاق
أثرية (العدد 5) إن مدينة يوسبريديس هجرت لأسباب سياسية وتقرر أن ينقل سكانها إلى موقع
آخر في مكان ليس بعيد عن المدينة الأولى ، المدينة الجديدة أطلق عليها تسمية
بيرنيكي نسبة إلى الملكة بيرنيكي زوجة بطليموس الثالث وابنة ماجاس حاكم إقليم
كيرينايكي(شرق ليبيا)، وربما عرفت في البداية باسم يوسبريديس ايضاً فهذا سترابون
في القرن الأول ق.م. يذكر ميناء يوسبريديس، ويشير للمدينة الجديدة باسم بيرنيكي،
وهذا يؤكد ان الميناء كان بعيدا أو مختلفا عن المدينة السكنية ، وهذا يُذّكر بما
قاله سكيلاكس عندما فرق بين يوسيريديس المدينة ومينائها، كما إن الجغرافي بطليموس
في القرن الثاني الميلادي يشير اليها باسم بيرنيكي او يوسبريديس ، عموما الاسم
الشائع هو بيرنيكي فهذا الجغرافي سولينوس (عاش في القرن الثالث الميلادي) يشير إلى
أن الملكة بيرنيكي قد منحت اسمها لهذه المدينة كما قامت بتحصينها، و عثر فاتيه دو
بورفيل (القنصل الفرنسي في بنغازي عام 1847) في مقابر السلماني على ابريق فخاري
لسكب القرابين صورت عليه الملكة بيرنيكي مع نقش اسمها عليه (حاليا في المكتبة
الوطنية بباريس) مما يؤكد تكريمها وعبادتها من قبل سكان هذه المدينة (سيتحدث عن
ذلك تفصيلا في الحلقة الثانية).
يشير سترابون في كتابه الجغرافيا ان بيرنيكي
بنيت على رأس بحري أطلق عليه اسم بسيدوبينياس (YeudopeniaV) وهي بالفعل كذلك حيث
أثبتت المكتشافات الأثرية امتداد هذه المدينة على لسان صخري يمتد بمحاذاة شاطيء
البحر من منطقة سيدي خريبيش إلى ضريح عمر المختار ومن الفندق البلدي إلى الميناء،
يحد هذه المساحة الصخرية المياه من عدة جهات حيث البحر من الشمال والغرب وسبخة
السلماني من الجنوب الشرقي، وفي الشتاء تتحول المنطقة الصخرية إلى جزيرة تحيط بها
المياه من جميع الجهات بسبب الفيضانات بحيث تتداخل مياه السبخات مع مياه البحر
مشكلة طوقا على المدينة.
وقد هجرت مدينة بيرنيكي بعد استيطانها بواسطة
العرب المسلمين عدة قرون وتحديدا في القرن الحادي عشر هذه المدينة التي عرفت عندهم
كمنطقة باسم برنيق حيث ذكرها ياقوت الحموي والإدريسي بهذا الاسم، وقد ادى هجرها إلى
تدمير معالمها بل واختفائها لاسيما بعد إعادة الاستقرار في المدينة منذ القرن
الرابع عشر وبناء بنغازي العثمانية على اغلب أنقاض مدينة بيرنيكي الأثرية، وقد أدت
أعمال البناء تلك إلى اكتشافات بالمصادفة عكست الأهمية الأثرية لهذه المدينة، ومن أقدمها
ما أشار إليه الأسير الفرنسي الجراح جيرار (عاش في ليبيا أسيرا ما بين 1668-1675) إن
صديقه الأسير الفرنسي جان دو ايتوال الذي كان في بنغازي عام 1672 قد كان شاهدا على
العثور على تمثال رخامي لسيدة (ارتفاعه 2.59 مترا) قرب مدخل القلعة التركية (كانت
تقع عند إدارة ميناء بنغازي وسينما بيرنيتشي) والتي أزيلت ما بين 1912-1926،
التمثال الرخامي الذي ربما يكون رومانيا هشّم بفعل من وجدوه من الأهالي، وعلى
الرغم من هذا فهو دليل على امتداد المدينة إلى منطقة الميناء. وبعد عشرين عاما من
هذه الواقعة وتحديدا في نهاية 1692 أو بداية 1693 عثر على تمثال آخر لسيدة رومانية
(بارتفاع 1.94 مترا) يؤرخ بأواخر القرن
الثاني الميلادي وذلك عند بناء منزل القاضي ، وقد نقل التمثال إلى فرنسا عام 1695
ليستقر في قصر فرساي ثم في متحف اللوفر وما زال معروضا هناك، والمنزل المشار إليه
يقع ضمن نطاق شارع عمر المختار و مسجد عصمان اي داخل حدود مدينة بيرنيكي الأثرية.
وفي عشرينيات
القرن الثامن عشر عثر على نقشين ينسبان إلى الجالية اليهودية في بيرنيكي في العصر
الروماني نقلا إلى جنوب فرنسا حيث يعرض أحداهما في متحف سان ريمون في تولوز والآخر
في متحف كاربنتراس ، ولا يعرف مكان العثور عليهما في بنغازي، إلا أنهما قدما
معلومات جد مهمة عن يهود بيرنيكي في القرن الأول الميلادي وأشار النقشان إلى وجود
مبنى في المدينة يسمى امفثياتير لم يكشف عنه حتى الان (سيأتي الحديث مفصلا عن هذين
النقشين في الحلقة الثانية). وقد لاحظ الطبيب الايطالي اغسطينو تشرفللي الذي زار بنغازي عام 1812 انه في بنغازي توجد آثار مدينة قديمة تبدو واضحة على طول الشاطئ تطغى عليها الأمواج عند
هيجان البحر وحينما تنحسر عنها المياه فان العرب واليهود يسارعون إلى التنقيب ما
بين الآثار حيث يعثرون على العملات القديمة والأحجار الكريمة المنقوشة (Gems) وهي ذات المنطقة التي جمع منها القنصل انريكو
روسوني المقتنيات نفسها بشهادة الرحالة الطبيب الايطالي دي لا شيلا عام 1817،
والمنطقة المشار إليها هي منطقة سيدي خريبيش من جهة البحر.
وفي خارج حدود المدينة السكنية ونقصد هنا
المقابر في منطقة السلماني حيث تحصل القناصل الأجانب مثل فاتيه دو بورفيل عام 1847
و فرنسيس ويري عام 1856 و فردريك كرو عام 1860 وجورج دينس 1865-1868 على كميات كبيرة من المقتنيات الأثرية
التي تعرض حاليا في متحف اللوفر والمتحف البريطاني. وفي عام 1902 عثر الأهالي في
السلماني على تمثال افروديت اشتراه منهم الطبيب بيرود الذي نقله إلى أوروبة وحاليا
يعرض في متحف جامعة بانسلفانيا في أمريكا. وأثناء رحلة ريتشارد نورتون إلى بنغازي
وشرق ليبيا رفقة اوريك بيتس وآخرين في ابريل عام 1909 اشترى من ألماني مقيم في
بنغازي لوحة رخامية تحمل نقش إغريقي من العصر البيزنطي وأهداه إلى الأكاديمية الأمريكية
في روما، ربما ينسب هذا النقش إلى الكنيسة البيزنطية في بيرنيكي. وفي 28 ابريل من
العام نفسه زار نورتون واوريك بيتس مزرعة ايطالي يدعى كارميلو كالّيا على مسافة 5 اميال جنوب شرق
بنغازي (الفويهات حاليا) وجدوا بها ثلاثة تماثيل رومانية (القرن الثاني – الثالث
الميلادي) لاشكال مدثرات بملابس وبدون رؤوس قاموا بالتقاط صورة لها، توجد تلك
التماثيل حاليا في شحات (ارتفاعها 1.83 ، 1.82 ، 1.75 مترا)، والواقع إن تلك
التماثيل عثر عليها احد الليبيين في صهريج منزل في الفندق او قربه ، وتحصل عليها
ذلك الايطالي ونقلها إلى مزرعته في الفويهات ثم باعها إلى الحكومة الايطالية حوالي
عام 1913. كما أشار بيتس إلى إنهم عند زيارتهم للقنصل الانجليزي جونس وجدوا عنده
نصب حجري عليه نقش ، وشاهد قبر به نحت بارز لسيدة ربما تحمل قيثارة قاموا بتصويرهما.
كما انه عند زيارة الأثري الانجليزي توماس آشبي لبنغازي في مايو 1910 التقط صور
لبعض النقوش و المنحوتات كانت في القنصلية البريطانية في بنغازي والتي كان من
بينها تلك التي شاهدها بيتس قبله بعام.
و توالت الاكتشافات الأثرية بعد
الاحتلال الايطالي لتؤكد أهمية مدينة بيرنيكي والتي تزامنت مع حركة البناء
والتعمير التي قام بها الايطاليون في المدينة ففي عام 1912 عثر قرب مستشفى
الجمهورية على مقتنيات تعود إلى معبد مكرس لمؤله الطب اسكلبيوس عرضت في متحف
بنغازي الذي أنشاؤه الايطاليون نهاية عام 1912 قرب عمارة شركة ليبيا للتأمين
حاليا. كما بدأ الايطاليون في حفرياتهم عام 1913 في شارع المفلوقة في منطقة سيدي
حسين والتي تمخض عنها اكتشاف عدد كبير من المقابر الهلنيستية والرومانية عرضت
مقتنياتها في متحف بنغازي ولا يعرف مصيرها حاليا ، كما عثر في عام 1914 عند تهديم
القلعة التركية على كنز من العملة البرونزية عددها 100 قطعة ، (سرقت من المصرف
التجاري الوطني عام 2011) ، و في الفترة نفسها هناك أرضية فسيفسائية عثر عليها في
مكان ما بين سيدي خريبيش والميناء ضاعت واشار اليها غيزلانزوني عام 1915 ، كما عثر على
لوحة عليها نحوت بارزة ملونة في الصابري او قرب السور الايطالي عام 1915 ، وأثناء تطوير وإعادة بناء بلدية بنغازي عام
1923 عثر أرضية فسيفسائية وأساسات مباني ورأس تمثال للإمبراطور الروماني تيبريوس الموجود
في شحات حاليا (ع.29 سم). وعندما قرر الايطاليون التوسع في البناء بمنطقة شارع عمر
المختار (شارع روما سابقا) كان لزاما عليهم إزالة مقبرة سيدي الشابي في عام 1932
ونتج عن تلك الأعمال العثور على منطقة أثرية تمثلت في منزل أو منازل مزودة بأرضيات
فسيفسائية لم تبق إلا صورها منها منزل نسب إلى شخص يدعى ليون وجد اسمه منقوشا على إحدى
الأرضيات الفسيفسائية، وقد ضاعت تلك المعالم الأثرية بسبب بناء عمارة مصرف التوفير
في شارع عمر المختار (مقر المصرف العقاري قبل انتقاله)،وعند بناء المنارة
الايطالية في منطقة سيدي خريبيش عام 1935 عثر على أرضية فسيفسائية لم تتوفر عليها
اية معلومات ، إضافة إلى حفريات في مقابر منطقة سيدي حسين ما بين 1933-1934 ، وعند
بناء عمارة التأمين سابقا المطلة على شارع عمر المختار وشارع عمر بن خطاب أي فيا
تورينو عام 1940 عثر على أرضية من الفسيفساء نقلت إلى شحات لم يبق منها إلا بعض
اللوحات وكانت مزينة بمشهد أسطوري تمثل في إحدى النيردات (حورية بحر) تمتطي وحشا
بحريا. إضافة إلى العثور على كنز عملات متكون من 1500 قطعة في شارع عمر المختار نقلت إلى شحات وهي تؤرخ ما بين العصر الفلافي
وعصر هادريان. وفي الفترة نفسها عثر على نقش على لوح رخامي معاد استخدامه في جدار أثري
عند بناء قصر ماجنزا في شارع عمر المختار، يشير النقش إلى أسماء المتبرعين الذين
اسهموا في ترميم كنيس اليهود بالمدينة في عام 56 م زمن حكم الإمبراطور نيرون،
النقش ضاع أثناء الحرب العالمية الثانية.
وتلك الاكتشافات تؤكد وجود مدينة
بيرنيكي لكن للأسف لم تحافظ عليها السلطات الايطالية واختفت آثار بيرنيكي اسفل
شارع عمر المختار، وعندما كتب جودتشايلد كتابه (بنغازي قصة مدينة) عام 1962 توقع أن
توجد أفضل بقايا مدينة بيرنيكي أسفل جبانة سيدي خريبيش وما توقعه جودتشايلد أثبتته
الحفريات فيما بعد فمنذ عام 1965 بدأت تظهر بعض المعالم الأثرية في تلك الجبانة
بعد البدء في أعمال تنظيف بها حيث كشف عن أرضيتين من الفسيفساء عند مدخل المقبرة
نقلت إلى مدينة توكرة، إضافة إلى بعض اللقى الأخرى منها مصابيح رومانية أشار إليها
جونس و ليتل عام 1971 . وكاد الموقع أن يضيع بعد أن قررت بلدية بنغازي إزالة
الجبانة بالكامل وتسويتها وشق طريق بها عام 1971، وبعد بدء العمل بدأت تظهر بعض
المعالم الأثرية مما أدى إلى تدخل مصلحة الآثار لإيقاف العمل والبدء في الحفريات
التي بدأت في صيف ذلك العمل بإشراف الحسيني وعبدالحميد عبدالسيد، إلا إن حجم العمل
أدى إلى الاستعانة بجمعية الدراسات الليبية في لندن التي أرسلت مجموعة من الخبراء
على رأسهم جون رايلي وديفيد براون الذين بمساعدة مصلحة الآثار التي وفرت العمالة
والمشرفين على الحفريات مثل عبدالسيد ومسعود شقلوف وعلي لترك استطاعوا القيام
بحفريات إنقاذية استطاعت إنقاذ هذا الموقع الأثري واثبات أثريته لبلدية بنغازي
التي كانت تهدد دائما بتدميره وإزالته ، وقد أجريت تلك الحفريات خلال سنتين من
العمل المتواصل بين سبتمبر 1971 إلى خريف 1973، كما أجريت حفريات محدودة في موسمي
1974-1975. وقد شارك في إدارة الحفريات تاتون براون وجون لويد،ومجموعة من الخبراء أخذت
على عاتقها دراسة المقتنيات الأثرية من عملة ونقوش وفخار رفيع وفخار خشن ومصابيح
وفسيفساء وغيرها والتي صدرت في شكل دراسات علمية واطروحات للدكتوراه مما اعطى لهذه
الحفريات الإنقاذية أهمية كبيرة في مجال الدراسات الأثرية في العصرين الهلنيستي
والروماني وبداية العصر البيزنطي. وهذه
الحفريات كشفت عن الكثير من معالم مدينة بيرنيكي منذ القرن الثاني ق.م مرورا
بالعصر الروماني فالبيزنطي ثم الاستيطان العربي الإسلامي لها حتى القرن الحادي عشر
الميلادي، وعكست هذه المباني والطبقات الأثرية جزء من تاريخ هذه المدينة الذي كان
صعبا في ظل عدم ذكر بيرنيكي في الكثير من المصادر القديمة. وقد توقفت الحفريات
بهذا الموقع الأثري على الرغم من إن الجزء الشرقي من مرتفع سيدي خريبيش لم تطله
الحفريات ويحتاج إلى مواصلة العمل في تلك الجهة لمعرفة توسع المدينة ناحية الشرق،
وتجدر الإشارة إلى مجموعة من الباحثين من مراقبة آثار بنغازي قامت في نهاية
ثمانينات القرن العشرين بعمل حفريات لم تنشر نتائجها حتى الان.يضاف إلى ذلك
الحفريات التي أجريت في مقابر السلماني وسيدي حسين بواسطة باحثي مراقبة الآثار
سيأتي الحديث عنها في مقام آخر. وفي عام 1991 عثر على تمثال رخامي من مجموعة ديونيسيوس
وساتير خارج الحدود الحالية للموقع الأثري في سيدي خريبيش وهذا دليل آخر إن الموقع
مستمرا خارج السور المقام حول موقع سيدي خريبيش ،وممكن أعمال البناء والبنية
التحتية تكشف مستقبلا عن بعض البقايا الأثرية التي تعود إلى مدينة بيرنيكي لذا
ينبغي الحذر ومراقبة هذه المنطقة جيدا عند إجراء أعمال حفر وصيانة بها.
المراجع:
بازامة، محمد ، مدينة بنغازي عبر التاريخ ، دار ليبيا : 1968.
جودتشايلد، ر. ، تاريخ مدينة بنغازي ، ترجمة صالح
جبريل ، ط2 ، بنغازي :2003.
De Ridder , A .Catalogue Des Vase Peints De La
Bibaliotheque Nationale , Paris:1902.
Ghislanzoni, Notiziario
Archeologico , Anno I. Fasc.I-II (1915)pp.71-102.
Laronde, A." D. Girard et la Cyrénaïque
le regard d′un captif français en Barbarie " Quaderni di Archeologia della
Libia,18 (2003)
Laronde, A.Cyrene et La Libye
Hellenistique Paris:1987
Lloyd,
J. (ed) Excavations at Sidi Khrebish , Benghazi (Berenice), Vol.1,Supplements
to Libya Antiqua, 5 (1977).
Michaelides,
D., Excavations at Sidi Khrebish, Benghazi (Berenice). Vol.IV. 1, The Mosaics
and Marble Floors, Supplements to Libya Antiqua 5, Tripoli, 1998,
Reynolds,
J.M. “Inscriptions”. In J.Lloyd (ed) Excavations at Sidi Khrebish , Benghazi
(Berenice), Vol.1,Supplements to Libya Antiqua, 5 (1977)pp.244-254.
Rosenbaum, E.Cyrenaican Portrait Sculpture,
(London:1960).
Roux, J.et G. “Un Decret du Politeuma des
Juifs de Berenike en Cyrenaique au Musee Lapidaire de Carpentras
“REG.62(1949)pp.281-283.
Uhlenbrock
,J.P. ‘’The Cyrene Papers: the second report. The Oric Bates Expedition of
1909’’ Libyan Studies 30(1999) p.77-97.
هناك تعليق واحد:
احسنت
إرسال تعليق