الأحد، 21 سبتمبر 2008

من المواقع الاثرية الليبية غير المشهورة


هادريانوبولس – دريانة


موقع المدينة :
تقع مدينة دريانة او هادريانوبوليس وفقا لاسمها القديم في منتصف الطريق بين مدينتي بيرنيكي (بنغازي) وتاوخيرة (العقورية ) حوالي 32 كم شمال شرق مدينة بنغازي ، وتشغل بقاياها قرية دريانة القديمة الى الجنوب مسجد سيدي ابراهيم الغماري قرب الجبانة الاسلامية و المنطقة المحيطة بها ، ومن المؤكد ان وجود اطلال المدينة الاثرية اسفل مباني المدينة الحديثة قد اعاق عمليات الكشف الاثري وسهولة التعرف على بقاياها .
تاريخ المدينة :
على الرغم من ان اسم هادريانوبولس كمدينة تقع بين بيرنيكي وتاوخيرة قد ظهر في عدة مصادر قديمة الا ان التعرف على موقعها بشكل دقيق لم يتم الا في فترة متأخرة من قبل الاستاذين باري جونس و جون ليتل بعد تحرياتهما في موقعها في اواخر ستينيات القرن العشرين ، ويبدو ان اول من خمن موقعها على وجه الدقة كان الاستاذ جودتشايلد و ذلك عام 1961 بعد العثور على بعض النقوش في احد محاجر دريانة اضافة الى العثور على بعض تيجان اعمدة رخامية في موقع الزاوية الدينية بدريانة عام 1959 ، و كذلك اشتقاق اسم دريانة من الاسم القديم لهادريانوبوليس ، و كل هذه دفع جودتشايلد الى تغيير رأيه السابق الذي مفاداه ان موقع تنسلوخ هو موقع مدينة هادريانوبوليس القديمة .
ومن خلال تسمية هذه المدينة يظهر أنها ترتبط بالامبراطور الروماني هادريان (117-138) ، أي أنها انشئت في بداية القرن الثاني الميلادي ، ولعل هذا يدفع الى سؤال مهم حول وجود استيطان بالمنطقة او الموقع قبل القرن الثاني خاصة بعد العثور على كسر فخارية تؤرخ قبل تأسيس هادريانوبوليس و تحديدا ما بين 60-80 م ، وهذا يوحي بانه كان هناك استيطانا بالموقع قبل عصر هادريان ربما يكون ذلك في العصر الهللنيستي ولعل ما يؤكد هذا ان الجغرافي سكيلاكس اشار في الفقرة 108 لموقع يتوسط بيرنيكي و تاوخيرة اطلق عليه اسم كاوكولي القديمة ( CAUCULI VITUS) يطابق تقريبا موقع دريانة ، و على هذا الموقع امر الامبراطور هادريان بتأسيس مدينة جديدة في اقليم قورينائية ، ويأتي تأسيسه لها من ضمن محاولات هادريان اصلاح ما دمره اليهود أثناء شغبهم في الاقليم مابين 115-117 والذي راح ضحيته كثير من الانفس و دمرت العديد من المباني العامة في شتى انحاء الاقليم و اصبحت مدن الاقليم في حالة من الدمار و الفوضى تحدث عنها بشكل مبالغ فيه المؤرخ الروماني ديو كاسيوس ، وتعد مدينة قوريني اكثر المدن تضررا من حيث المباني و السكان ، وهذا التخريب ادى بهادريان الاهتمام باصلاح الاقليم فقام بارسال ثلاثة الاف من الجنود المسرحين لتعويض النقص في السكان ، اضافة الى انشاء مدينة جديدة بعيدا عن دمار اليهود في المدن الخمس في موقعا جديد على انقاض قرية كاوكولي القديمة ، اطلق عليها اسم هادريانوبوليس أي مدينة هادريان نسبة الى الامبراطور هادريان . وقد ذكرت هذه المدينة في دليل الطرق الانطونية الذي يرجع الى اوائل القرن الثالث الميلادي ، اضافة الى خارطة بوتنجير الرومانية والتي ورد فيها اسم هادريانوبوليس وهذه تؤكد ان المدينة كانت مزدهرة خلال القرنين الثاني والثالث ، الا انه يلاحظ ان كتاب قياسات البحر الكبير الذي يؤرخ باواخر القرن الثاني لم يتم ايراد اسم هادريانوبوليس به لعل سبب ذلك ليس عدم وجود المدينة آنذاك بل لان ذلك الكتاب لم يرصد ويسجل الا المرافئ والموانئ و لم تكن هادريانوبوليس لا مرفأ و لا ميناء وفقا للتحريات التي اجريت بالمدينة .
و بتأسيس هذه المدينة تحولت المدن الخمس الى المدن الست (HEXAPOLIS) و مما يؤكد هذا نقشا يرجع الى عام 185 م يذكر ان قوريني كانت عاصمة المدن الست وليس الخمس أي ان هادريانوبوليس اضيفت الى المدن الخمس المعروفة في الاقليم (قوريني و ابوللونيا وبطوليمايس و تاوخيرة و بيرنيكي) ، ومن الصعب معرفة تاريخ هذه المدينة الا انه يمكن القول أنها لم تعمر طويلا حيث أنها لم تذكر في اصلاحات الامبراطور دقلديانوس عام 297 ، فولاية ليبيا العليا شملت خمس مدن فقط ، وعلى الرغم من هذا فان المؤرخ البيزنطي هيراكليس قد اشار اليها في الفقرة 733.2 اضافة الى ذكر هادريانوبوليس في قائمة جورج القبرصي في وصفه للعالم الروماني و تحديدا في الفقرة 793 . ومن حيث الادلة الاثرية فان اغلب الفخار الذي تم جمعه من مركز المدينة من الفخار الروماني الذي يؤرخ مابين القرنين الثاني و الثالث ، و لايوجد أي اثر ان المدينة كانت مستوطنة في العصر البيزنطي وليس هذا مستغربا ، ذلك ان المدينة انشئت لظروفا خاصة و ان عدم وجود مرفأ بها كان من عوامل عدم استمرارها لفترة طويلة .
معالم المدينة الاثرية :
لا يتوقع المرء ان يشاهد معالم واضحة لهذه المدينة لاسباب سبق الاشارة اليها ، و كل ما هنالك بقايا بعض المعالم نتجت عن مسح وتحريات باري جونز وجون ليتل الذي نشر في العدد الثامن من مجلة ليبيا القديمة عام 1971 ، و يمكن وصف هذه المعالم على النحو الاتي:
1- مركز المدينة:
يقع مركز المدينة قرب مسجد سيدي ابراهيم الغماري و الجبانة الاسلامية و لعل من اهم آثار هذه المنطقة الشارع العرضي المعروف اصطلاحا ديكومانوس (DECOMANUS) والذي امكن التعرف عليه في المنطقة الفاصلة بين المسجد و الجبانة حيث يمكن مشاهدة خط من الاحجار لاثنان من المباني تطل على هذا الشارع خاصة عند الزاوية الغربية للجبانة اضافة الى الجهة الشمالية الشرقية من الجبانة التي يخترقها هذا الشارع حتى يقطع بطريق حديث مؤدي للمسجد ، ومن البقايا التي اكدت وجودها المصادر المحلية في المنطقة انه يوجد اسفل الجبانة وتحديدا في الناحية الغربية منها مجموعة من الصهاريج كشف عنها عندما كان احد حفاري القبور يقوم بعمله في تلك المنطقة فسقط في صهريج مقبي عندما اخترق سقفه . كما عثر في الجبانة على بقايا عناصر معمارية منها اجزاء عمودين احداهما من رخام بروكونيسوس عثر عليه عند الزاوية الجنوبية الغربية ، والاخر تاج عمود عثر عليه بجانب الجدار الجنوبي للمسجد اضافة الى جذع عمود عثر عليه عام 1972 .
و قد تم ملاحظة وجود بقايا مباني جنوب الجبانة من خلال ظهور مجموعة من النصب الرأسية التي تنسب الى مباني شائعة في الشمال الافريقي ، وقد عثر على مجموعة كبيرة من تلك الاحجار الرأسية الى الجنوب من الطرف الجنوبي للجبانة في منطقة متسعة مساحتها حوالي نصف هكتار ، و هي ترجع الى مباني تقع بطول شارع عرضي آخر او موازية للشارع العرضي الشمالي . و هناك بعض البقايا المشابهة على بعد مائتي متر الى الشمال الشرقي من المنطقة السابقة وهي بحاجة الى مزيدا من البحث .
2- قناة المياه :
تعتمد مدن الاقليم الساحلية ـ باستثناء تاوخيرة ـ في حصولها على الماء من مصادر ينقل منها الماء بواسطة قنوات آو قناطر (AQUEDUCT) وافضل مثالا على ذلك مدينة بطوليمايس (طلميثة) ، و يبدو ان هادريانوبوليس قد استعملت نفس الطريقة حيث كشف بها على مجموعة من الخزانات المهدمة في الجبانة و دعم هذا الكشف اكتشاف اجزاء من مجرى ماء على بعد كيلومتر جنوب مركز المدينة و بتتبع هذا المجرى امكن التعرف على المصدر الذي كانت المياه تأتي منه الى المدينة و كان ذلك في منطقة وادي الجويبيه التي تبعد 17 كيلومتر الى الجنوب من دريانة ، وعلى بعد كيلومتر ونصف من الفرع الشمالي بوادي الجويبيه يوجد كهف في الواجهة الصخرية الجنوبية تخرج منه المياه ، ويوجد عند بوابة الكهف قناة محفورة في الصخر يمكن تتبعها على طول حافة الوادي بصورة متقطعة ، وبالقرب من نهاية الوادي يحافظ المجرى على الشكل الذي يتميز به القسم الاوسط منه وهو عبارة عن طبقة من الحجارة عرضها ما بين 45-50 سم .
3- فرن الفخار :
يقع هذا الفرن على بعد 400 مترا من مركز المدينة فوق تل صغير ، وقد تم التعرف عليه من خلال انتشار كسر فخارية مرفوضة وتالفة . يتكون الفرن من مبنى مستدير بسمك 60 سم وقطره 6.80 مترا ، توجد حفرة التزويد بالوقود في الجانب الجنوبي الشرقي و قد احيط جانبه الشرقي بكتل من الحجر الجيري بينما الكتلة المناظرة لها في الجانب الغربي قد ازيلت ، كما توجد بقايا جدران منخفضة مستمرة في الناحية الجنوبية و لمسافة سبعة امتار من الناحية الشرقة و هذا يدعو لافتراض وجود ساحة مستطيلة مسورة تحيط بحفرة التزويد . ويمكن مقارنة هذا الفرن بالفرن الموجود خارج الاسوار الغربية بتوكرة اضافة الى مقارنته من حيث الاستدارة بفرن عين الشرشارة في ترهونة ، و يقارن بافران الفخار الحديثة في القيروان . وينتج هذا الفرن فخار خشن للاستعمال المحلي يمكن مقارنة بعض منتوجاته بفخار سانية جبريل في جرمة بفزان الذي يرجع الى الاسرتين الانطونية و السيفيرية أي القرنين الثاني و الثالث .
4- نقوش المقابر :
لقد عثر على محجرين كانت مستغلة قديما على مسافة كيلومتر واحد جنوب غرب مركز المدينة قرب الطريق الرئيسي ، لم يستغل المحجر الكبير (الجنوبي) للدفن بينما استغل المجر الصغير لهذا الغرض فقد عثر به على اربع حجرات للدفن ، وجدت في واجهاتها اربعة نقوش ، لعل من اهمها ذلك النقش الذي يعلو المقبرة (الحجرة) الاولى ويمكن ان تترجم مقبرة رجال احرار من المدينة .


خاتمة :
ماتزال المدينة في حاجة الى تحريات جديدة حتى يمكن معرفة تاريخ المدينة خلال الفترة التي ظلت فيها المدينة تلعب دورا مهما في تاريخ الاقليم خلال القرنين الثاني و الثالث ، كما ان آثارها بحاجة الى حفريات علمية لتساعد في معرفة ذلك التاريخ .

ليست هناك تعليقات: