السبت، 20 سبتمبر 2008



عرض كتاب
دراسة تحليلية للنقائش الفينيقية البونية
في اقليم المدن الثلاث في ليبيا

تأليف د. عبدالحفيظ فضيل الميار
عرض أ. خالد محمد الهدار
نشر في مجلة الثقافة العربية عدد اغسطس 2008

يُنهي د. عبدالحفيظ فضيل الميار استاذ التاريخ القديم بجامعة الفاتح خاتمة كتابه الموسوم بـ " دراسة تحليلية للنقائش الفينيقية البونية في اقليم المدن الثلاث في ليبيا " الصادر عام 2005 ضمن منشورات جامعة الفاتح (ISBN9959-816-61-3) بعبارة جد مهمة تكررت في كتابه اكثر من مرة " ان الفينيقيين لم يتركوا لنا مصادر ادبية مكتوبة سوى النقائش والتي هي مصدر لا يرقى اليه الشك وهو ما جعلها من اهم مصادر التاريخ الفينيقي " ص. 296 ، وهو محقا في هذا فعلى خلاف الاغريق و الرومان لم يصلنا من الفينيقيين اية مصادر مكتوبة تعبر عن تاريخهم وحضارتهم ، وقد يكون سبب ذلك هو الدمار المفرط الذي الحقه الرومان بقرطاجة ـ حاضرة الفينيقيين في الغرب ـ والذي ربما قد شمل مصادرهم الادبية ، او انه بسبب طبيعية الفينيقيين التجارية جعلتهم لا يلتفتون الى هذه المسائل كثيراً ، وعلى اية حال تبرز هنا النقائش التي سُطّرت على الحجر وعلى مواد اخرى بديلاً او مصدراً مهما تُستنتج منه الكثير من المعلومات في نواح شتى من اوجه الحياة والحضارة الفينيقية ، وكما يذكر د. الميار في مقدمته ان للنقائش او النقوش اهمية كبيرة فهي " مصدر لا يرقى اليه الشك اذ هي الوثائق الاصلية المعاصرة للاحداث التي تسجلها " ص.8 ومن هنا فان هناك اهمية قصوى لدراسة النقائش الفينيقية البونية في ليبيا ذلك ان دراستها قد تسد فجوات او ترقع ثوب تاريخ المستوطنات الفينيقية في المدن الثلاث المليئ بالثقوب ، فما تزال الصورة جد قاتمة لتاريخ الفينيقيين في ليبيا عند مقارنتها بتاريخ الاغريق مثلا بسبب ما ذكره هيرودوتس من احداث تاريخية تُجلّي جوانب من تاريخهم في شرق ليبيا اضافة الى المعالم الاثرية الباقية التي ماتزال شاهد عيان على حضارتهم ، اضافة الى الكثير من النقائش التاريخية التي تذكر جوانب من تاريخهم وحضارتهم ، اما الفينيقيين في غرب ليبيا فلا توجد مصادر تاريخية فينيقية تُفصِل الحديث عنهم ، مع الافتقار الى المعالم الاثرية الفينيقية في مستوطناتهم في ليبيا (اشهرها لبقي اي لبدة ، ويات اي طرابلس، صبراتن اي صبراته) باستثناء بعض العمائر الجنائزية و الدينية المنتشرة هنا وهناك ، ويرجح ان بناء المباني الرومانية على انقاض المباني الفينيقية ـ التي يبدو انها لم تتسم بالقوة و المتانة ـ كان عاملا لتلف الكثير منها ، كما يبدو ان الفينيقيين قد ركزوا على المباني الجنائزية التي تميزت بالمتانة وصمدت اسفل المباني الرومانية انطلاقا من تركيزهم على الحياة الاخروية مقارنة بالحياة الدنيوية اسوة بالشعوب الشرقية الاخرى المصريين القدماء مثلا لا حصرا ، كما ان النقائش الفينيقية القليلة التي عُثر عليها لاتقدم الا النزر اليسير من المعلومات التاريخية وهذا ما يؤكده د. الميار بقوله " ان غالبية النقائش التي عثر عليها لا تتضمن اي ذكر لاحداث او اسماء يمكن ربطها بوقائع تاريخية معروفة " ص. 83 ، الا انها على اية حال تعكس الكثير من الجوانب الدينية و الثقافية والحضارية و تسهم في معرفة التطور اللغوي للكتابة الفينيقية في ليبيا ، يضاف الى ذلك ان البحث الاثري لم يوّجه في ليبيا لاستكشاف الاثار الفينيقية والتنقيب عنها ، وما زال الاهتمام مُنصباً على الاثار الاغريقية و الرومانية تلك المنهجية في التنقيب التي بدأها المنقبون الايطاليون عند بداية حفرياتهم في المواقع الاثرية الليبية زمن الاحتلال الايطالي ، وما زالت مستمرة ـ الى حد كبيرـ حتى الان ، و في ظل هذه الظروف فان النقائش التي يُعثر عليها في كثير من الاحيان بالمصادفة المحضة ـ على الرغم من قلتها ـ تعد مصدرا وثائقيا اصيلا لا غنى عنه لتتبع جوانب من تاريخ الفينيقيين وحضارتهم في غرب ليبيا ، الا ان الدراسات الفينيقية بصورة عامة لم يركز عليها تركيزا كبيرا في ليبيا بسبب قلة الاثار الفينيقية المكتشفة ومن بينها النقائش ، لذا فان المهتمين بهذه النقائش هم قلة ، واغلبهم من الاجانب ، الايطاليين على وجه الخصوص وعلى رأسهمم جورجيو ليفي ديلا فيدا (G. Levi Della Vida ) الذي حصر غالبية النقائش الفينيقية وقام بدراستها خلال خمسين عاما ، آخرها الكتاب الصادر عام 1987 والذي حررته بعد وفاته الباحثة ماريا جوليا امداسي قوزو (Guzzo) وضمنته جميع النقائش التي قام بدراستها ديلا فيدا منذ عام 1927حتى عام 1967 ، و يبدو ان د. الميار في كتابه هذا قد اعاد نشر جميع النقائش التي نشرت في ذلك الكتاب و اضاف عليها نقائش عُثر عليها حديثا ونقائش بونية كتبت بحروف لاتينية سبق ان نشرها مجموعة من الدارسين الاجانب ، وقد بلغ عدد النقائش التي درسها د. الميار مائة و اربعة وعشرين نقيشة عُثر عليها في لبدة و طرابلس و صبراته و زليتن ،وابو كماش ، و مسلاتة ، ترهونة ، وسرت ، و بئر دريدر ، ووادي سوف الجين ، ووادي زمزم ووادي ترغلات ، ووادي العمود وقرزة وغدامس و غيرها ، و هذا الامتداد الجغرافي لمواقع النقائش يؤكد تواجد الفينقيين في الجزء الغربي من ليبيا لا سيما الجزء الساحلي و ان تأثيرهم (اللغوي و الحضاري) و ليست سيطرتهم قد امتدت جنوبا الى المناطق شبه الصحراوية ، اذاً الكتاب عبر صفحاته الثلاثمائة والثماني والثمانين وبفصوله الاربعة يدرس النقائش الفينيقية البونية التي عُثر عليها في اقليم المدن الثلاث وهو اول كتاب يصدر عنها في اللغة العربية ومن هنا تأتي اهمية الكتاب في كونه اضافة جديدة للمكتبة الليبية و العربية التي تفتقر الى مثل هذا النوع من الدراسات .
وقد مهّدَ د. الميار لدراسته للنقائش بفصلين الاول يمثل مقدمة تاريخية (ص ص.13-42) والثاني مقدمة عن اللغة والكتابة الفينيقية (ص ص.43-84) ويلاحظ ان الفصلين برمتهما هما تلخيص لما نشره د. الميار في كتاب سابق له موسوم بالحضارة الفينيقية في ليبيا صدر عام 2001 . و تكرر ذكرهما هنا لاهميتهما كمدخل لدراسة النقائش الفينيقية في ليبيا ، حيث يقف المؤلف في الفصل الاول بعض الوقفات السريعة عند تاريخ الفينيقيين منذ كانوا في المشرق ثم نشاطهم البحري الذي نتج عنه تكوينهم لمستعمرات او مستوطنات في غرب المتوسط اشهرها قرطاجة ، ومن بينها ليبيا او الجزء الغربي منها ، مستعرضا الاراء الجديدة التي قيلت في هذا الصدد و التي من اهمها تاريخ الاستيطان الفينيقي في ليبيا الذي ما زال يكتنفه الغموض فمن حيث الادلة المادية (الاثرية) يعد اقدم دليل على تواجدهم في لبدة يرجع الى القرن السابع ق.م. وتواجدهم في صبراته و طرابلس يرجع للقرن الخامس ق.م. وهذا ما ايدته بعض المصادر الادبية (الكلاسيكية) وبعض النقائش وفقا لما يذكره د. الميار نقلا عن الايطالي دي فيتا ، ومن الطبيعي وجود علاقة وطيدة بين قرطاجة وتأسيس المدن الثلاث التي كانت محطات تجارية اي امبوريا (Emporia) هيمنت عليها قرطاجة و اصبحت تابعة لها بشكل او بآخر ، ويبدو انه من المناسب طرح الاراء التي تُعتق تاريخ الاستيطان الفينيقي في ليبيا و تؤرخه الى ما قبل القرن السابع ق.م. والذي لا يوجد دليل اثري يؤيده ، كما يبدو ان السقوط المدوي لقرطاجة عام 146 ق.م. على يد الرومان قد ادى الى تحرر المدن الثلاث من سيطرة قرطاجة و تبعه نوع من الانتعاش الحضري منذ القرن الثاني ق.م. ، وبطبيعة الحال فقد فرضت قرطاجة نظامها السياسي على المدن الثلاث وهذا ما اثبتته النقائش الفينيقة البونية التي عثر عليها بمدينة لبدة (ص ص. 39-42 ) زد على ذلك اوجه حياتية وثقافية فينيقية امتزجت بمؤثرات محلية (ليبية).
اما الفصل الثاني فيتعرض فيه المؤلف لتاريخ اللغة الفينيقية وتطورها والتي يرجع اليها الفضل في تطوير الكثير من اللغات الاخرى كالاغريقية التي من المؤكد انها نقلت حروفها عن الفينيقية تلك الحروف التي اختلفت عن مثيلاتها في الكتابات الشائعة قبلهم والتي تميزت بالكتابة المقطعية والتصويرية الا ان الفينيقيين اخترعوا حروفا عبروا عنها باشكال بسيطة واضعين رمزا منفردا لكل حرف اي ما يعرف بالهجائية حيث " انهم قاموا باتخاذ الرموز التي تمثل حروفا صحيحة كأساس في تهجئة الكلمة واطلقوا عليها اسماء سامية مع اعطائها قيمة صوتية تناسب الاصوات اللغوية في لسانهم ، فقد اتخذوا الرمز الذي يشير الى رأس الثور و سموه باسم لسانهم "الف" و التي تعني في الفينيقية " ثور " (صورة رأس الثور ) تتمشى مع الصوت اللغوي في اول الكلمة ، وهكذا جرى وضع حروف الهجاء على هذا الاساس" (ص.50) ، ثم ينتقل المؤلف الى بيان تطور اشكال الحروف الفينيقية من خلال نقائش المدن الثلاث التي قام بدراستها مستعرضا اياها بالطريقة الابجدية (ابجد هوز) وقد زودها بجداول تحدد رسم اشكالها، وعلى الرغم من اهمية ما قام به د. الميار من جهد في هذا الصدد ، وربما يتفق معنا انه ليس مكانه هنا في الفصل الثاني و لكن الاجدى و من المنطقي ان يكون في فصل خاص في نهاية الكتاب يلي دراسة النقائش لان ما قام به من تحليل يعد نتيجة لدراسة النقائش ذاتها ، كما كان الاجدر ان يشار الى ارقام النقائش التي استدل بها على اشكال الحروف بالارقام التي وضعها هو للنقائش التي درسها بدلا من اشارته لارقام كتاب ديلا فيدا وقوزو لانه يصعب على القارئ بهذا الشكل متابعة النقائش التي يشير اليها المؤلف ، وخُتم هذا الفصل بملاحظات (ص ص.71-84) هي توطئة لدراسة النقائش في حد ذاتها من حيث انه اشار الى اماكن العثور عليها و اشار الى موضوعاتها والتي تتركز في النقائش التذكارية او الاهداءات المكرسة لبعض الالهة الفينيقية و الليبية مثل شادراب و ملك عشترت ، و آمون و قرزل اضافة الى النقائش الجنائزية المدونة على شواهد القبور و الاضرحة و التي جرت العادة ان يذكر فيها اسم الميت واحيانا لقبه و نسبه و المنصب الذي كان يشغله ومن هنا ومن نقائش اخرى امكن التعرف على الكثير من الوظائف في المدن الفينيقية ومدلولاتها السياسية في نظام الحكم و الادارة مثل (الشفطم) اي القاضيان و (المحازيم ) اي المسئولون على جباية الضرائب و الرسوم الجمركية ومراقبة الاسعار ، و ( الشحم ) اي المسئول على الشؤون الزراعية ، كما ذكرت في بعضها ان مشائخ القبائل الليبية كانوا يشرفون على العدالة (ميزوروثم) و الادارة (مشرت) ، وهناك النقائش التي تنقش على واجهات المباني و التي توضح من قام بالبناء و الغرض من تشييدها ، وتوجد شقف فخارية حملت نقائش تختص بالمعاملات الزراعية ومن ثم فان النقائش الفينيقية في الاقليم تُبرز بعض الجوانب الدينية والاقتصادية و الادارية ، و يمكن من خلالها تبيان الاسماء الشخصية التي كانت شائعة في الجزء الغربي من ليبيا سواء الفينيقية ام الليبية ام الرومانية منذ القرن الثاني ق.م حتى القرن الرابع او الخامس الميلادي و هي الفترة التاريخية التي ترجع اليها النقائش محل الدراسة ، وهذا في حد ذاته مدعاة للقول بافتقار الاقليم حتى الان الى النقائش التي ترجع ما قبل القرن الثاني ق.م. و التي من شأنها ان تعكس الكثير من الجوانب الحضارية في الفترة التاريخية الواقعة من تأسيس المدن الثلاث الى سقوط قرطاجة تقريبا .
اما دراسة د. الميار للنقائش فقد افرد لها الفصلين الثالث و الرابع حيث خصص الفصل الثالث لدراسة النقائش الفينيقية البونية في اقليم المدن الثلاث (ص ص.85-192) والتي يقصد بها تلك النقائش التي استخدمت الكتابة الفينيقية البونية التي تعد تطورا للكتابة الفينيقية التي نقلها المهاجرون معهم الى مستوطناتهم في غرب المتوسط و بفعل الزمن و بتأثيرات محلية تغير شكل الحروف الفينيقية خلال القرنين الرابع و الثاني ق.م. حيث اصبحت " تتميز بطولها و انحنائها الخفيف " (ص.74) مما جعل الدارسين يطلقون عليها لفظ البونية او البونيقية وهو لفظ اطلقه الكتاب الرومان على الفينيقييين او الكنعانيين الذين استوطنوا غرب المتوسط بصورة عامة . ثم تطورت الكتابة البونية الى ما يعرف بالكتابة البونية الجديدة التي هي " عبارة عن الكتابة باحرف متصلة مشتقة من البونية و هي تتميز بتطور ملحوظ في شكل العديد من الحروف يؤدي في بعض الاحيان الى عملية خلط وارتباك " (ص.75) و التي انتشرت او شاعت خلال القرن الاول ق.م. ، وهذه النقائش ما هي الا تعبيرا ماديا عن اللغة الفينيقية التي انتشر استعمالها في المستوطنات الفينيقية و اثرت في اللغة المحلية السائدة (الليبية) سواء في المناطق الساحلية ام الداخلية حتى بعد احتلال الرومان لهذه المناطق ظلت اللغة الفينيقية هي السائدة مثلما حدث في شرق ليبيا من سيادة اللغة الاغريقية بعد الاحتلال الروماني لكيريناكي (= قورينائية) ، وقد اضطر الرومان في غرب ليبيا الى كتابة النقائش باللغة اللاتينية و الفينيقية في جل معاملاتهم حتى يفهمها الشعب ذو الثقافة الفينيقية ، ولكن هذا لم يستمر طويلا فقد انتهت اللغة الفينيقية من المعاملات الرومانية الرسمية في عهد الامبراطور دومشيان (81-96 م) لكنها ظلت تستخدم في مجالات اخرى غير رسمية وظلت الفينيقية لغة التحاور الى جانب اللاتينية في اقليم المدن الثلاث فترة طويلة من الزمن (ص .197) ، كما ظهرت قلة من النقائش ثلاثية الكتابة فينيقية و لاتينية واغريقية ، مما يدعو للقول بانتشار اللغة الاغريقية بشكل محدود في المدن الثلاث الذي قد يعكس وجود عمال البناء الذين استقدموا من اليونان للمشاركة في بناء بعض المباني في لبدة مثلا (ص ص. 208-210)، اويعكس ظهور بعض الشخصيات المهنية البارزة التي قد تكون تعلمت في بلاد اليونان مثل الطبيب بونكار مكراسي . و يمكن تتبع الملاحظات المنوه عنها اعلاه من خلال النقائش البونية التي درسها د. الميار في الفصل الثالث و البالغ عددها ست وسبعون نقيشة والتي انتهج في دراستها الاسلوب العلمي المتفق عليه في دراسة النقائش بصورة عامة والمتمثل في وصف المادة الحاوية للنقيشة و ابعادها ومكان العثور عليها ، ثم تناول النقش من حيث ارتفاع حروفه و نص الكتابة و ترجمتها اضافة الى شروح مستفيضة لبعض ما تحويه النقائش من اسماء شخصية ووظائف والهة وغيرها من الامور التي تحتاج الى تعليق ، ولم يكتفِ د. الميار بذلك اذ انه اعاد النظر في الكثير من النقائش التي سبق نشرها حيث أعاد قراءة بعضها من جديد و خالف بذلك قراءات الكثير من الدارسين الاجانب (النقيشة رقم 54 مثلا) كما اضاف نقيشة جديدة تشير الى عبادة الاله الليبي قرزل عثر عليها بجوار قصر دوقا قرب ترهونة عام 1997 . ولعل الجديد الذي اضافه د. الميار في نشر النقائش البونية هو استعمال الحروف العربية عند نقل او قراءة النقيشة الفينيقية البونية لصعوبة كتابة الحرف الفينيقي و طباعته ، بدلا من استخدام الحروف اللاتينية او العبرية التي اعتاد الدارسون الاجانب استعمالها عند نشر تلك النقائش ، وهذا اتجاه جديد بدأ يظهر عند المختصين العرب (تونس مثلا) في النقائش الفينيقية البونية . ولعل من نافلة القول الاشارة الى موقع على شبكة المعلومات العالمية باشراف جامعة ليدن الهولندية يجدر الاطلاع عليه قام بحصر غالبية النقائش البونية الجديدة في العالم ومنها ما يخص ليبيا والتي وردت في الفصل الثالث من هذا الكتاب :
http://website.leidenuniv.nl/~jongelingk/projects/NEOPUNIC-INSCR/puninscr.html
اما الفصل الرابع فقد خصصه د. الميار لدراسة النقائش البونية اللاتينية في اقليم المدن الثلاث (ص ص.193-294) ويقصد بهذا النوع من النقائش تلك المنسوبة الى اللغة البونية الجديدة و لكنها كتبت بحروف لاتينية نعم بحروف لاتينية ، ذلك ان اللغة اللاتينية اصبحت هي اللغة الرسمية لسكان الاقليم حيث فرضها عليهم المستعمر الروماني ضمن سياسة رومنة العالم التي انتهجها الرومان ، وفي هذا الصدد يذكر القديس اوغسطين ان روما " لم تكتفِ بفرض سيطرتها على الشعوب الخاضعة لها و انما ايضا لغتها " (ص.205)، وتدريجيا حلت اللاتينية محل الفينيقية في المعاملات الرسمية واصبحت لغة الادارة والتعامل ، و اضطر من يتكلم الفينيقية من سكان لبدة و اويا وصبراته لتعلم اللاتينية حتى يستطيع التعامل مع الرومان الذين اصبحوا سادة اقليم المدن الثلاث وفرضوا هيمنتهم الثقافية ـ ان جاز التعبير ـ التي ابرز صورة لها اللغة اللاتينية مما ادى الى التراجع القسري للغة الفينيقية حتى اصبح من يتكلم الفينيقية محل استهزاء و سخرية والادلة الادبية على ذلك كثيرة (ص.196) لكن هذا لا يعني باية حال انتهاء الفينيقية لانها لم تكن لغة فحسب بل ثقافة ونظم وعاداتمارسها السكان لفترات طويلة اي انها اصبحت جزء من حضارتهم ، لكنها وان تراجعت في المدن الثلاث الرئيسة (لبدة ، اويا ، صبراته) فانها لم تختفِ بسهولة في دواخل الاقليم (حضارة الاودية الليبية) الذي كان في البداية بعيدا عن التأثيرات المباشرة للثقافة الرومانية مما جعل سكانه يتكلمون الفينيقية الى جانب لغتهم الليبية ، لكنهم عرفوا اللاتينية فيما بعد من خلال اتصالهم بالرومان بشكل مباشر او غير مباشر ، وهذه المعرفة لا تعني انتشار اللغة اللاتينية بينهم فقد اكتفوا باستعارة الحروف اللاتينية في كتابة لغتهم الفينيقية تقليدا للنقائش اللاتينية تماشيا مع (موضة) العصر . وقد ناقش د. الميار الاسباب التي دعت الى استعمال الحرف اللاتيني في كتابة اللغة الفينيقية في دواخل الاقليم وهي ظاهرة اكثر ظهورا في هذه المنطقة مقارنة ببقية المستوطنات الفينيقة في ليبيا وفي الشمال الافريقي بصورة عامة (ص ص.203-205)، وما دلل عليها ظهور مجموعة كبيرة من النقائش لغتها الفينيقية (البونية) الجديدة بحروف لاتينية عُثر عليها في دواخل اقليم المدن الثلاث تؤرخ ما بين اوائل القرن الثالث الميلادي و استمرت الى نهاية القرن الرابع او بداية القرن الخامس الميلادي تقريبا ، تلك النقائش التي درسها د. الميار و البالغ عددها ثماني و اربعين نقيشة ، (ص ص.213-294) وتمثل دراسة الميار إعادة نشر وتحقيق لنقائش سبق ان نشرها جودتشايلد مثل نقائش بئر دريدر (جنوب شرق مزدة) ونقائش اخرى من ترهونة ، وتلك التي نشرها ليفي ديلا فيدا وعثر عليها في لبدة و زليتن و مسلاتة، واخرى نشرها بارتوتشيني عثر عليها في لبدة وسرت ، ونقائش نشرتها رينولدزعثر عليها في بعض الاودية مثل وادي ام العجرم و ليس ام الجرم مثلما جاء في الكتاب (ص ص. 265 ، 308) و غيرها من المواقع مثل قرزة ، ومما تجدر الاشارة اليه ان النقائش التي سبقت الاشارة اليها قد اعاد نشرها د. الميار في رسالته للدكتوراه التي نشرها مركز جهاد الليبيين باللغة الانجليزية عام 1997 ، ونشر بعضها باللغة الانجليزية في مجلة دراسات ليبية (Libyan Studies) 1982-1983، ونشر بعضها باللغة العربية عام 1997 ضمن اعمال مؤتمر الآثاريين العرب الثالث عشر المنعقد بطرابلس عام 1995، اضافة الى نقيشتين نشر د. الميار احدهما في مجلة ليبيا القديمة عام 1998 ، والاخرى عُثر عليه في ترهونة ويعد اول نشر لها في هذا الكتاب ، ولعل من نافلة القول ان يذكر ان هذه النقائش ما زالت محل دراسة وتمعن من المتخصصين وآخرها رسالة دكتوراه روبيرت كير (Kerr) التي نوقشت في جامعة ليدن بتاريخ 21/2/2007 .
وقد اتبع د. الميار في دراسته للنقائش ذات المنهجية المتبعة في دراسة النقائش في الفصل الثالث لكنه هنا نقل النص بحروفه اللاتينية لسهولتها ، و يقر د. الميار بصعوبة التعامل مع تلك النقائش و ترجمتها بسبب عدم فهم معاني الكثير من الكلمات التي اخطاء كاتبها نحويا او لغويا ، اضافة الى ان بعض الباحثين لم يقر باصلها الفينيقي وعدها قد كتبت باللغة الليبية و ليست الفينيقية وهذا ادى الى عدم التوصل الى ترجمة متفق عليها من قبل كثير من الباحثين (ص ص. 208 ، 212) ، وقد استدل من دراسته لتلك النقائش ان القصور (بيوت المزارع المحصنة) المنتشرة في منطقة الحدود الرومانية في جنوب اقليم المدن الثلاث ليست بالضرورة مواقع دفاعية أنشأها الجيش الروماني وفقا لرأي جودتشايلد بل ان بعضها بيوت خاصة (الكنتاريوم) اقامها رجال القبائل (الجنتيلز) لحماية اراضيهم (ص.206) " فلافيوس داساما و ابنه مكرينوس مالكي الارض من اقاما هذا الكنتاريوم (البيت) لحراسة وحماية جميع حدود ارضهم " ، وقد اثبتت بعض النقائش ان الرومان قد استفادوا من مشائخ القبائل و عينوهم امراء مواقع عسكرية لمساعدتهم في حماية منطقة الحدود مثلما حدث في منطقة بئر دريدر وانيطت بهم السلطات الادارية و تحقيق العدالة في الاماكن التي تحت سيطرتهم (ص.207) ، ومن ثم فان الرومان استغلوا السكان المحليين لحماية الحدود وهذا ما جعل اولئك السكان طواعية او غصبا يكتبون لغتهم الفينيقية بحروف لاتينية ، اضافة الى " تسمية اولادهم باسماء فينيقية و رومانية يدل على تأثرهم بالحضارتين الفينيقية والرومانية غير ان تأثير الحضارة الفينيقية كان اعمق من تأثير الحضارة الرومانية و ما الاخيرة الا قشرة تغطي الحضارة الفينيقية " وهي بالفعل كذلك ، وبهذا يختم د. الميار كتابه المشوق و المتفرد في موضوعه بحيث يسّر على الباحثين في مجالي التاريخ و الاثار في ليبيا التعامل مع الحروف الفينيقية التي كانت طلاسم لا يمكن تفسيرها الا بالرجوع الى المراجع الاجنبية ، وقد زود هذا الكتاب الرصين ببعض الجداول التوضيحية لعل اهمها جدول بالكلمات الفينيقية واسماء الشخصيات الواردة في النقائش التي تعرض لها الكتاب ، وهي تعطي للقارئ صورة عن الاسماء الشائعة في اقليم المدن الثلاث ومجالا للدارس لاجراء المقارنات اللغوية اللازمة عند دراسة النقائش الفينيقية ، وقد زود الكتاب بصور و اشكال توضيحية للنقائش محل الدراسة ، مع غلاف رائع لكن صورة النقيشة التي تتوسطه ظهرت مقلوبة . ويمكن الرجوع الى موقع جامعة ليدن للاستزادة حول النقائش البونية اللاتينية في شمال افريقيا ومن بينها النقائش الواردة في الفصل الرابع ونقائش اخرى من اقليم المدن الثلاث : http://website.leidenuniv.nl/~jongelingk/projects/LATPUN/LPINTRO.htm
وخاتمة القول هذا كتاب زفه د. الميار الى المكتبة العربية وفاتحة لدراسة النقائش الفينيقية باللغة العربية ونبراسا يهتدي به كل من يريد ان يطرق باب الدراسات الفينيقية اللغوية ، ولعله صرخة توجه الانظار الى تكوين مدرسة للتنقيب عن الاثار الفينيقية في ليبيا ودراستها .

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
يا أستاذ خالد ماذا يعنى نقش الابريق ذو العروة الواحدة على صخرة وهل كنت طريقة الدفن فى العصر الفينيفى هى الدفن فى الجرار
و شكرا